المغرب والجزائر: إما أن نكون أو لا نكون

دكتور-حسن-اوريدالمفكر حسن أوريد//

تحضرني دوما حين أستعرض العلاقات المغربية الجزائرية، تلك الصورة التي رسمها الكاتب الجزائري الكبير مولود فرعون في سيرته الرائعة “نجل الفقير” بين الأخوين اللذين اضطُرا للافتراق أمام ظروف قاهرة و استبد بهما النزاع، وسعيا جهدهما أن يبدوا بمظهر لائق، أمام الآخر، وأمام الغير، ولكن واقع الحال كان ينبيء عن شيء آخر، عما كانا عنه يتستران…

ليس أشد وطأة من خلاف الإخوة وعدائهم. لا ينبني الخلاف على أسباب موضوعية، لأن الخلاف على مسببات موضوعية سهل الحل، أو على الأقل ممكن الحل. أما الأسباب الذاتية فتتأبى على الحل أو تعسر، لأن هناك عوامل نفسية تجعل إمكانية التسوية، شبه مستحيلة، ما لم يظهر عامل آخر قد يتهدد الإخوة أو الأخوين في وجودهم، فيُذكّر الإخوان بالوشائج العميقة..
ما يجمع ما بين الشعبين، المغربي والجزائري، أكثر مما يفرقهما، بل إنك واجد من الأواصر ما بين فئتين من البلدين ما لا تجده في مناطق أخرى من نفس البلد. فالتشابه مثلا ما بين الريف وساكنته أقرب إلى منطقة القبائل بالجزائر منه إلى عبدة أو دكالة مثلا، والتماثل ما بين تلمسان وفاس، أقرب ما يكون مما بين فاس وصفرو الأمازيغية التي تعبد عن فاس بعشرين كلم لا غير. ولا تجد فرقا في الثقافة وفي البنية الذهنية ما بين المزاب وفكيك.. هذا عدا المناطق الحدودية التي كانت مجالا مفتوحا بين الأسر والقبائل قبل أن توضع الحدود على الخرائط وتنتقل من الخرائط إلى الواقع، وتمزق من ثمة أواصر وشيجة كانت قائمة لقرون.

ولكن الدولتين استنتا لهما تجربتين مختلفتين، واضطُرتا غداة الاستقلال أن تنهضا في مواجهة الآخر، بل في عداء له. تنبني الهويات، وهي بناء يركز على الخصوصية، أو ما يميز كيانا أو ثقافة، على نصب الآخر عدوا. لا توجد هوية من دون عدو فعلي أو افتراضي. قام بناء الدولة، في كل من المغرب والجزائر على ما يسميه المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنيامين ستورا بوطنيات الدولة. كانت هذه الوطنيات بناءً، وتَعسّفَ هذا البناء في قراءة التاريخ وفي التنكر للثقافة، وفي تقويض الجغرافية، وفي توظيف الإيديولوجيا.

لعلنا أن نضيف عوامل نفسية، إذ لا تبرأ الدول، شأنها شأن الأفراد، مما يعتري الأشخاص من أعراض سيكولوجية، ومنها تلك التي أسماها الصحافي المرحوم محمد باهي بعقدة التطويق التي تؤثر على أصحاب القرار في الجزائر. تعرضت الجزائر عبر تاريخها لاعتداءات رسخت عقدة التطويق في اللاشعور الجمعي. والثابت تاريخيا أن كل الغزوات التي عرفتها بلاد المغرب (بمعناه العام)، بدأت أول ما بدأت بالجزائر، أو المغرب الأوسط، لتنتقل إلى المغرب الأدنى، فالمغرب الأقصى. منذ الرومان فحلول العرب، إلى احتلال الجزائر من قِبل فرنسا. تواترُ الاعتداءات رسخ في المخيال الجمعي لحكام الجزائر شعور التطويق. من يستمع لخطاب المرحوم الهواري بومدين مع أطر حزب جبهة التحرير في 1976، حين ربط قضية الصحراء بالسعي لتطويق الجزائري من قِبل “القوى الاستعمارية” والقوى العربية “الرجعية”، يدرك مدى تغلغل هذا الشعور. وتعتبر قضية الصحراء من الجانب الجزائري، إلى الآن، مثلما رشح من تسريبات ويكيلكس عن أعلى مستوى، شكلا من أشكال التطويق من لدن من لم يبرؤوا من حنين “الجزائر الفرنسية” (كذا).

أما الدولة المغربية فكانت في منأى من عقدة التطويق لأن سلسلة الجبال حمتها، كما البحر الأطلسي، وقامت الدولة على شريط سفح الجبل حيث بسيط السهل و جداول الماء المترقرق من الجبل، بفاس ومراكش. تقوى الدولة فتمتد، وتضعف فتنكمش. نعم قد يأتي دفق دم جديد من خارج هذا الحيز، من الأطراف، من الصحراء، أو من الجبل، أو العمران البدوي، من جحافل مدفوعة بعصبية ودعوة، كما في تحليل ابن خلدون، لتبعث الروح في الدولة حينما تضعف عصبيتها، أو حين يُقعد الترف همة القيّمين عليها. لذلك كانت العقدة التي تواترت في المغرب هي التمزيق..وعرف المغرب، في فترات الضعف، اتجاهات انفصالية كما أن قوى أجنبية اقتطعت منه أجزاء كبيرة، وقطعت أوصاله كما في الحماية التي فرضتها فرنسا على المغرب، وقسمته مع اسبانيا، إلى خمسة أجزاء. تظل عقدة التمزيق راسخة في لا وعي المغاربة، حكاما ومحكومين، وتمتزج قضية الصحراء عندهم بهذا الرفض اللاشعوري للتمزيق الذي يحيل إلى فترات الضعف، والفوضي وعدم الأمن.

هل يمكن أن نرتكن لهذه الثنائية من نفسيات الدولتين لفهم حالة التوتر؟ ألم ينتقل المغرب من عقدة التمزيق إلى واقع التطويق. هل الجزائر، إن سلمنا أنها برئت من التطويق، في منأى من التمزيق؟

أتكلم هنا عن الدولتين ومنطقهما، ولا أتكلم عن المجتمع.

قبل عشر سنوات كنت في حديث مع مسؤول أمني مغربي كبير، كان يسعى أن يردني إلى “جادة الصواب”، والحديث ذو شجون، (بالفرنسية طبعا) بالقول التالي: “إسمع حسن، في الجزائر كما المغرب، ليس هناك إلا الدولة، والدولة نحن، والمجتمع المدني فقاقيع، يمكن أن تتمسك بهذا السراب، إن كان يروق لك ذلك، أو ملء وقتك، ولكنه لن يغير شيئا.”

إلى الآن لم أقتنع بقول محدثي، واعتبرت مع النأي عن ساحة الأحداث، إن كان لقول مُحدثي مسوغ فيما مضى، فلم يعد له من مسوغ الآن، حيث يستحثني شعور عارم، هو إما أن نكون، بتضافر جهودنا وبتجاوز عقدتي التطويق والتمزيق، أو لا نكون، بإعراضنا عن بعضنا البعض. 


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading