تحب الشعوب أن ترى نفسها في صور بهية، تحب من يُرصّع ذاكرتها ويزين أحلامها، ويتغاضى عن مناطق الظل من تاريخها، ويتجاوز عن هفواتها، وقد يكون ذلك التمرين مفيدا لشد لحمة أمة، ولكنه يكون مسيئا حين يغريها فيغرَّها ويبيعها الوهم، فتستيقظ على واقع مهول كما وقع لشعوب قريبة منا، آمنت بما اختلقت، إلى أن انتكست ولم تنهض بعدها من النكسة. ولذلك تحتاج الشعوب كذلك إلى من يريها الوجه الكالح، ولعله أن يوقظها ويستثير حميتها أكثر مما تفعل المناغة الكاذبة، والإطراء الزائف. هو ذا الخيار الذي اختاره الأديب عبد الكريم جويطي في عمل روائي رصين، بعنوان ”المغاربة”، يجعل شأن الكشف عن الحقيقة إلى فئة مهمشة، فئة العُمي. هم الذي يُبصّرون المجتمع بواقعه وحقيقته، في تواطؤ مع الهامشيين ممن بذلوا أرواحهم وحيواتهم للوطن وارتدّوا خائبين وآلمهم أن يتحول العلَم الذي استرخصوا من أجله حياتهم إلى لعبة تجارية يلفها متاجرون ونصابون وهم ينضحون عرقا في حفل بئيس. عُمي قذفت بهم صروف الحياة لأن يكونوا شخوصا لمسرحيات يصوغها المبصرون، ظنا منهم أن العمي لن ينفذوا إلى الحقيقة، ولن يكتشفوا الزيف ولن يكشفوه.. عُمي يتوسلون بطه حسين وقد غادر الحياة بكثير من الألم وقليل من الأمل، وقد يذهبون أبعد إلى بشار بن برد، وإلى كل العمي الذين اختارتهم الأقدار كي يبُصروا أممهم، من هوميروس، وميلتن وبورخيس.. عُمي ينُتدبون لهذه المهمة في واقع المغرب المتشعب، مهمة كشف الزيف، وهي المرحلة الأولى والضرورية للتنوير.
يبدأ الأعمى المستند إلى هامشي آخر، عسكري كادت تلتهمه رمال الصحراء، وكان شاهدا على صراع أخوين، كاد يجهز عليه اليأس، فراغ إلى الكتاب وأخذه بقوة ليستجلي الواقع المر. البداية من قراءة التاريخ المنمطة تلك التي يجريها فقهاء هل فُتح المغرب عنوة أو صلحا، «كأنهم يقيّمون وضعية جارية في سوق نخاسة لا وطنا وشعبا وهوية متجذرة». ما يهم، في هذا التاريخ المنمق سوى السلطة، بنزقها أو نزق أصحابها. يجري الروائي هذا الحكم القاطع حول طبيعة السلطة: «السلطة أنانية جدا وتغار جدا، وحقودة جدا، ولا تقتسم مع أحد، وكل عهد يريد في قرارة نفسه أن يبدأ التاريخ معه».
تلك بداية المأساة التي تتكرر في لبوس جديد، لحقيقة سرمدية. أما الخطيئة الثانية، يقول أعمى وهي غياب التفكير، «يا عزيزي، نحن أمة أعفت نفسها ومنذ مدة طويلة من إعمال العقل، ومن السؤال، وتركت للدين مهمة إعطائها أجوبة حول كل شيء، ومهمة مراقبة كل ما يقال وما يكتب». ويثُنّي العسكري الذي غاض منه الأمل وطلّق الحلم بالقول: «لقد قتل الدين من جدودنا أكثر مما قتلت الفتن والمجاعات والأوبئة، كانوا كلما رفضوا ظلما وقهرا اتُهموا بالكفر». وثالثة الأثافي، هو استقالة من كان يستطيع أن يحمل المشعل من أجل أدوار ثانوية، بل خيانة لتاريخهم النضالي وأفكارهم و أرواح الضحايا الذي شاطروهم الحلم والمأساة «ألم تر، يقول العسكري، كيف تحول بعض عتاة اليساريين إلى أعوان صغار ومنظرين للاستبداد وإلى كراكيز، تُعطى لهم أدوار التهريج في الحياة السياسية».
وماذا يبقى للحالمين الحاملين لمشعل الأمل، بعد أن تلظوا بالعجز والعَمى وقِصَر ذات اليد؟ ماذا يبقى لهم رغم جهودهم في أن «يغيروا هذا البلد نحو الأفضل» من خلال الكتاب والمسرح سوى ارتداد صدى صيحاتهم أو خيباتهم في الوادي السحيق للجحود واللامبالاة؟
قد يفتحون سجل التاريخ، أو جماجم الموتى التي تتكلم، تتكلم بلسان هامليث وهوراشيو، لتذكر بهذا الواقع المريع الذي يتغير كي لا يتبدل، ويتكرر كي لا يتجدد، وتبقى الأسئلة الأثيلة والحارقة ماثلة في هذا الحكم المؤلم الذي لم نعد قادرين أن نطرحه، ونتعايش معه ونُطّبع معه كأنه القَدر: «لا يريد هذا البلد أن ينفض يديه من شيء انتهى، يدفنه وينصرف لبناء شيء جديد كلية. هنا الجثث تخالط الأحياء، هنا الجثث تتحرك وتتكلم وتُستدعَى لأداء خدمة ما، جثث زوايا العصور الوسطى، وجثث أحزاب لم يعد لها من مبرر، وجثث مؤسسات لذر الرماد في مرحلة ما، جثث طقوس في الحكم، جثث نظريات وأفكار، جثث عجزة ما يزالون يصرون على تدبير المستقبل».
ولكن الأدهى أن العارفين يفضلون واقع الريع على مغامرة التغيير، «الكل يتعيش (يعيش) من الريع. ألم تر زعماء يحوَّلون كأكياس بطاطا بين هذا الموقف وذاك؟ ألم تر كيف صار مفكرون يبررون ما لا يبرر ويجعلون للعبث والسطحية والارتجال عمقا ويتبارون في تأويله».
نقف عند هذا الحكم الذي قد يتجنبه السياسي ولا يستطيع أن ينكره المؤرخ، ويفضحه الروائي : «هذا الوطن صنعه العجز والخوف بالإضافة إلى الدين وسنوات الجفاف».
هل يمكن أن نصوغه بناء على الأمل والذكاء وحسن تدبير الاختلاف؟ تلك هي النتيجة التي انتهى إليها العميان وقد كشفوا زيف المسرحية. كشفوها بعد أن تلظى واحد منهم بالأمل واكتوى بالخيانة، وانتهى إلى الحقيقة، ولم يُردها حكرا عليه فبثها من خلال حكي ممتع جميل وعميق.
*عن مجلة زمان… مستشار علمي بهيئة التحرير المجلة
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.