المخزن يعود عاريا بعد أن مزّق حراكُ الريف أقنعتَه
بقلم: محمد بودهان//
المخزن بين الوجه والقناع:
يعرّف المعجم العربي القناع لغويا بأنه “ما يُستَرُ به الوجهُ”، ويعرّفه المعجم الفرنسي اصطلاحا بأنه “وجه زائف يوضع قصد التنكّر” (faux visage qu’on met pour se déguiser). لماذا ستْر الوجه بالقناع حتى لا يظهر على حقيقته؟ إما لأنه وجه قبيح لا يريد صاحبه أن ينكشف قبحُه، وإما ـ حسب التعريف الثاني ـ أن واضع القناع يسعى بذلك إلى التنكّر وانتحال الصفة حتى يوهم الآخرين أنه شخص آخر.
سياسيا، من يستر وجه المخزن في المغرب؟ من يقوم بدور القناع الذي يلبسه هذا المخزن، ليُخفي وجهه القبيح، ويتنكّر حتى يظهر أنه ليس هو المخزن المعروف، الفاسد المفسد والمستبدّ، بل هو نظام حكم آخر، ديموقراطي وحداثي، يقوم على الفصل بين السلط، واحترام حقوق الإنسان، ويتمتّع فيه المواطنون بالحرية والكرامة والمساواة أمام القانون…
عندما نحلّل دور الأحزاب والبرلمان والحكومة، اللذيْن يتشكلان في الغالب من ممثلي هذه الأحزاب، في النظام المغربي، سنجد أنها لا تلعب ذلك الدور المفترض لمثل هذه المؤسسات في الأنظمة الديموقراطية. ذلك أن الأحزاب، عندنا في المغرب، لا تسعى إلى الوصول إلى الحكم، وهو الهدف الحقيقي للحزب، بل إلى الوصول إلى موقع تأييد الحكم الحقيقي للمخزن؛ والحكومة لا تحكم بل هي محكومة، كما قال عنها بحق السيد ناصر الزفزافي، فكّ الله أسرَه؛ والبرلمان لا يشرّع إلا ما يُرضي المخزن ويوافق أهواءه ومصالحه. إذن وجود هذه المؤسسات كعدمها في ما يتعلق بفعلها وتأثيرها الحقيقيين. والمسؤولون البرلمانوين والحكوميون هم أنفسهم يعترفون بذلك عندما يصرّحون، بصدد أي مشروع أو إجراء أو مبادرة أو مجرد زيارة لإقليم ما، أن ما يقومون به كان بتعليمات ملكية، وهو ما يعني أن ما يفعلونه ليس قرارات صادرة عنهم وباختيارهم، وتخصّ مهامَهم ومسؤولياتهم كما يحددها القانون، وإنما هم مجرد قناع للمصدر الحقيقي للقرارات الحقيقية. فمهمتهم إذن هي أن يلعبوا دور هذا القناع الذي يستر الوجه القبيح للمخزن، ويسمح له بالتنكّر في “زي” نظام ديموقراطي عادل، يتوفّر على كل مقومات وشروط ومؤسسات الأنظمة الديموقراطية، التي هي الأحزاب، وما ينتج عنها من انتخابات تعطينا برلمانا وحكومة “اختارهما” الشعب، وهو أسمى مظهر لممارسة الحكم الديموقراطي. وحتى عندما يحتجّ الشعب على الفساد ويطالب بمحاسبة ناهبي المال العام، يوَاجَه بأنه هو الذي “اختار” من صوّت عليهم في الانتخابات، والذين هم المسؤولون عن الفساد ونهب المال العام. هكذا تلعب هذه المؤسسات / القناع دورَ الدرع الواقي للمخزن، الذي بيده كل شيء، ولكن وراء القناع الذي يتحمّل الضربات دون أن تكون له يد في ما يجري ويقع. وكم كان السيد ناصر الزفزافي، فكّ الله أسره، مصيبا عندما نعت الأحزاب بـ”حفّاظات المخزن”، نظرا لدورها كوسيط وقناع يخفي الاستبداد القبيح للسلطة المخزنية.
عناصر لتعريف المخزن:
وهنا نفتح القوس لنوضّح أن المخزن، إذا كان يتمحور حول الملك الذي هو علّة وجوده واستمرايته، فإنه مع ذلك لا يُختزل في شخص الملك وحده. إنه بنية متعالقة من العناصر التاريخية والدينية والعائلية والزبونية والاقتصادية والريعيية والبرتووكولية، قائمة بذاتها تعيد إنتاج نفسها بنفسها، يتربّع على رأسها الفساد كركن لوجود النظام المخزني، ويشكّل فيه الحكم الفردي الاستبدادي الأسلوب الوحيد لممارسة السلطة وإدارة الدولة المخزنية. ولأنه بنية قائمة بذاتها تعيد إنتاج نفسها ينفسها، فإن النظام المخزني قد يتجاوز حتى الملك الذي هو مناط هذا النظام، ومبتدأه ومنتهاه. ذلك أن العلاقات والعناصر المشكّلة لهذا النظام، والتي تستمدّ وجودها من وجود الملك كغاية، تستعمل أيضا هذا الأخير كمجرد وسيلة لتقوية هذا النظام وإدامته قصد استغلاله والاستفادة منه. ولهذا نجد أن أشدّ المدافعين عن النظام المخزني تحت غطاء الدفاع عن الملكية، هم الانتهازيون المستفيدون منه من أصحاب الامتيازات والريع، والمنتفعون من المناصب المدرّة للثروة والنفوذ، التي يمنحهما لهم المخزن مكافأة لهم على خدمتهم وولائهم له، والمفسدون وناهبو المال العام، الذين يحمون النظام لأنهم يحتمون به، ويدافعون عنه لأن في ذلك دفاعا عن مصالحهم الشخصية، وخصوصا أنه يضمن لهم الإفلات من كل عقاب أو محاسبة أو متابعة قضائية جدّية. ويجدر التذكير أن فرنسا هي التي بعثت الحياة من جديد في النظام المخزني أثناء فترة الحماية، التي كانت تعني حماية هذا المخزن نفسه وترميمه والنهوض به، إذ أعطت له شكل دولة بقوانين ومؤسسات وأنظمة إدارية، وهو ما سيجيد استعماله كقناع يظهر به كدولة قانون ومؤسسات، ويخفي به وجهه الحقيقي المصنوع من الفساد والاستبداد، اللذيْن تقوّيا وتوسّعا بفضل هذه المؤسسات القناعية.
هذا القناع ظل يقوم بدوره الاعتيادي إلى أن اغتيل شهيد لقمة العيش محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016، وما تسبّب فيه ذلك من حراك شعبي بالريف، وبالحسيمة على الخصوص. هذا الحراك سيمزّق كل الأقنعة التي كانت تغطّي الوجه القبيح للمخزن، فظهر على حقيقته، عاريا ووحيدا، وبلا قناع ولا وسيط.
تمزيق قناع الأحزاب والبرلمان والحكومة:
لقد أحرق الحراك الشعبي بالريف قناع الأحزاب والبرلمان والحكومة فاختفت من المشهد كأنها غير موجودة، وذلك هو وضعها الحقيقي، ولم تستطع أي من هذه المؤسسات أن تلعب دورها التقليدي كقناع للمخزن، قادرة على أن تكون وسيطا بينه وبين الحراك الشعبي. وحتى تحركاتها المتأخرة، وبتعليمات مخزنية كما هي العادة دائما، لم يكن لها أي مفعول ولا تأثير، لأنها أصلا تفتقد للفعل والتأثير. فظهر المخزن وحيدا في مواجهة الحراك وجها لوجه، بلا قناع ولا وسيط.
هكذا فرض الحراك على المخزن أن يَظهر كما هو، في حقيقته الحميمية الباطنية، عاريا بلا قناع ولا زواق ولا “حفّاظات”، ويكشف عن طبيعته الأصلية، العميقة والبشعة، كما استعرضها أمام العالم كله، من خلال حملة القمع العدوانية، والاعتقالات العشوائية الظالمة لعدد هائل من أبناء الريف بسبب مساندتهم للحراك الشعبي، وما صاحبها من مداهمات للبيوت، وترويع للأسر، واختطاف للمشاركين وغير المشاركين في الحراك، وعسكرة للأحياء والشوارع…، ثم التعذيب الجسدي والنفسي للمعتقلين ـ الذين هم في القانون مختطفون ـ كما صرّحوا بذلك، حسب ما هو متضَمّن في محاضر الاستماع إليهم أمام الوكيل العام وقاضي التحقيق وأمام المحكمة بالنسبة لمن عُرضوا عليها.
استعمال العدالة كأداة لممارسة الظلم:
إنها عودة علانية ومباشرة إلى ممارسات اعتُقد أنها تنتمي فقط إلى ماضي سنوات الجمر والرصاص، عندما كان المخزن يبطش بكل من يشتم فيه رائحة الاعتراض على استبداده وطغيانه. والدليل على هذه العودة هو استعمال هذا المخزن، كما كانت تفعل الأنظمة الستالينية والعنصرية (حالة النظام العنصري لجنوب إفريقيا الذي حكم على نلسون مانديلا بالسجن المؤبّد)، لجهاز القضاء لإضفاء طابع قانوني زائف على محاكمات هي في الأصل سياسية في دوافعها وأسبابها. واستعمال القضاء من أجل إسكات المعارضين للاستبداد هو الاستبداد الأكبر والأخطر، لأنه، كما قال “مونتسكيو” Montesquieu،«ليس هناك استبداد أفظع من ذلك الذي يُمارس في ظل القانون وتحت غطاء العدالة». وقد أجاد الحكم المخزني استعمال العدالة كأداة فعّالة لممارسة ظلمه واستبداده عندما أصدرت محاكمه، إبّان ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، أحكاما سجنية انتقامية ضد كل من كان يعارض الطغيان المخزني، من إسلاميين ويساريين وأمازيغيين. وسيعترف هذا المخزن بنفسه في ما بعد، كما هو معروف، أن عدالته كانت ظالمة عندما استعملها كأداة سياسة لتمثيل محاكمات سياسية، تكون أحكامها معروفة حتى قبل انعقاد الجلسات المسرحية للنظر في ملفات المتهمين، وهو ما أكّده بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أقرّ عبرها، ومن خلال دفعه تعويضات لأولئك الأبرياء الذين قضوا مئات السنين في غياهب السجون، بأن محاكمة هؤلاء كانت ظالمة، وأن قضاءه كان جائرا ومستبدا، وأداة للطغيان والتسلط والبغي… وإذا كان الهدف المباشر من إنشاء هذه الهيئة هو معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وجبر الضرر والتأسيس لعدالة انتقالية، إلا أن الغاية الأسمى من كل ذلك هي: “أن لا يتكرر ما جرى”، كما نصت على ذلك العديد من التوصيات ذات الصلة بالموضوع.
حتى يتكرر ما جرى!
لكن ها هي نفس الدولة المخزنية، التي أنشأت هيئة الإنصاف والمصالحة، وبعدها مجلسا وطنيا لحقوق الإنسان، وتتوفر على وزارة لحقوق الإنسان، كتعبير عن إرادتها للقطع مع ممارسات الماضي والالتزام بقواعد العدل والقانون، تعود إلى تكرار، بالحسيمة والريف عامة، ما جرى من انتهاكات لحقوق الإنسان في سنوات الجمر والرصاص. وبهذه العودة المخزنية إلى نفس الانتهاكات، يكون حراك الريف قد مزّق قناعا آخر لبسته هذه الدولة المخزنية مع بداية الألفية الثالثة لتُخفي به عدوانها ضد حقوق الإنسان. لكن طبيعتها المعادية للإنسان وحقوقه، سرعان ما خانتها بصدد حراك الريف ليسقط عنها القناع فتظهر بوجهها القبيح، العدواني والحاقد على كل من يطالب بالحرية والعدالة والكرامة.
هناك من قد يردد علينا ما سمعناه من الوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة ـ وكذلك وزير العدل ـ، الذي قال بأن ضمانات المحاكمة العادلة، في ما يخص معتقلي الريف، مضمونة ومكفولة، وأن هناك تعليمات ملكية صارمة للتحقيق في ما قد يكون هؤلاء المعتقلون قد تعرّضوا له من تعذيب وضرب في مخافر الشرطة القضائية. نحن بدورنا نذكّر هؤلاء بأن نفس هذا الكلام الرسمي كان يقال ويُردد بخصوص اعتقالالت ومحاكمات سنوات الجمر والرصاص، دون أن يمنع ذلك من اعتراف الدولة في ما بعد، عبر هيئة الإنصاف والمصالحة، أن تلك الاعتقالالت والمحاكمات شكّلت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهو الاعتراف الذي ألزمها بدفع تعويضات للضحايا أو ذويهم. ولهذا لا نستبعد أن يأتي يوم قد تعترف فيه الدولة المخزنية أن اعتقالات ومحاكمات شباب وشابات حراك الريف تُصنّف ضمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لأنها كانت ظالمة وانتقامية، تحرّكها دوافع سياسية لا علاقة لها بتطبيق القانون وإعمال قواعد العدالة.
ومما يجعل هذه الاعتقالات والمحاكمات تكرارا لانتهاكات حقوق الإنسان التي مارستها الدولة المخزنية في سنوات الجمر والرصاص، ليس فقط طريقة الاعتقال العشوائية التي يراد بها ترهيب المواطنين وترويع الأسر بالريف، والتعذيب الجسدي والنفسي للمعتقلين، والحصار الأمني للشوارع والساحات العمومية، بل تكررا تلفيقهم نفس التهمة التي كانت تدين معتقلي سنوات الجمر والرصاص من المعارضين للنظام، وهي تهمة المس بالسلامة الداخلية للدولة، والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام. وهي تهمة ثابتة إذا عرفنا أن السلامة الوحيدة التي يهددها حقيقة هؤلاء المحتجّون ضد “الحكرة”، ليست هي سلامة الدولة، وإنما هي سلامة ناهبي المال العام والمفسدين من أصحاب الريع والامتيازات، التي تقض مضاجعَهم احتجاجاتُ الشارع، وتنغّص عليهم التنعّم بالمال السحت الذي راكموه بالفساد والمكافآت ورخص الإثراء بلاسبب على حساب الوطن والمواطنين. فهؤلاء الفاسدون المفسدون لا يخافون على سلامة الدولة، التي هم أول من يهددها بفسادهم وخدمة مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة، وإنما يخافون على سلامة أموالهم وامتيازاتهم ومصالحهم من مساءلة الشعب ومطالبتهم بالحساب.
تهمة الانفصال:
الفرق الوحيد في ما يخص تلفيق التهم، بين معتقلي سنوات الرصاص ومعتقلي الريف في 2017، هو إضافة تهمة الانفصال بالنسبة لهؤلاء. وهي، لمن لا يعرف تاريخ المغرب الحديث، تهمة استعمارية سبق أن أطلقها للمرة الأولى مؤسس الدولة المخزنية الحالية، الفرنسي “ليوطي”، على شرفاء الريف (ومعهم طبعا شرفاء جبالة الذين هم جزء من الريف) الذين كانوا يحاربون الاستعمار. فكل من كان رافضا ومقاوما للاستعمار، الذي رحّب به المخزن وسلّم له البلاد عن طواعية وبابتهاج وسعادة، كان انفصاليا في نظر المستعمر ومحميّه الذي هو المخزن. وبما أن هذا المخزن ورث عن حاميه المستعمر نفس الأسلوب الذي كان يتعامل به مع الشعب، فإن كل من يرفض من هذا الشعب فساد واستبداد هذا المخزن يتهمه هذا الأخير بالانفصال، تماما كما كان يفعل “ليوطي” حامي نفس المخزن. ولأن الانفصال مشروع سياسي يتطلب موارد وأموالا لتنفيذه، فلم يتعب المحقّقون في العثور على 2700 درهم توصّل بها السيد ناصر الزفزافي من أحد معارفه الذي يعمل في الخارج، وهو ما سيُقدّم دليلا ماديا قاطعا على تورّطه في مشروع الانفصال بدعم من جهات أجنبية تمدّه بالأموال، كما كتبت تلك الصحافة التي سرّب إليها المحققون أضحوكة 2700 درهم ذات المصدر “الخارجي”. هي بالفعل أضحوكة لأن لو كان ثمن الانفصال هو 2700 درهم، لكان كل من أراد من المغاربة أن يقيم دولته الخاصة المنفصلة عن المغرب، لنجح في ذلك بيسر كبير، ما دام أن هذه الدولة لا تكلّفه إلا ثمن مبيت ليلة واحدة فقط في فندق مصنّف.
سقوط قناع المصالحة مع الريف:
مزّق الحراك القناع الآخر المتمثّل في دعوى المصالحة مع الريف. ذلك أن ما تمارسه اليوم الدولة المخزنية في هذه المنطقة من اعتقالات عشوائية، ومداهمات للبيوت، وحصار أمني للأزقة والفضاءات العمومية، ومحاكمات انتقامية وعقابية، لا يختلف إلا في الدرجة، وليس في الطبيعة، عما اقترفته نفس الدولة من فظائع في حق سكان نفس الريف في 1958 ـ 59، والذي اعتمدت في تبريره على تهمة الانفصال التي ورثتها عن حاميها وصانعها “ليوطي”. مع أن من بين ما تضمّنته مطالب السكان، في ذلك الوقت، هو “تسريع تعريب التربية”، أي التعليم، وهو مطلب يبيّن أن هؤلاء لم يكن يحرّكهم أي مسعى انفصالي، بل على العكس من ذلك كانوا يريدون الاندماج في النظام العربي الجديد بالمغرب من خلال إلحاحهم على مطلب التعريب. وها هي نفس التهمة، الاستعمارية الباطلة، تُلصق اليوم بشباب حراك الريف، حتى أن مكونات الحكومة بكاملها لم تتورّع من إيراد هذه التهمة في بلاغ لها، تحضيرا وتبريرا للاختطافات والاعتقالالت والمداهامات والمحاكمات المسرحية ذات الدافع الانتقامي. يضاف إلى ذلك أن السلطة المخزنية عملت، من خلال إعلامها الرسمي والإعلام الذي توجّهه وتتحكم فيه، على عزل الريفيين لتفعل فيهم ما تشاء، وذلك بشيطنتهم وتحريض إخوانهم المغاربة ضدهم باعتبارهم انفصاليين يهددون الوحدة الوطنية للمغاربة. لكن المغاربة ردّوا على أكاذيب هذه السلطة بالمسيرة الوطنية بالرباط ليوم 11 يونيو، والتي شارك فيها أزيد من 200 ألف من كل مدن المغرب، عبّروا خلالها عن تضامنهم مع الريف مطالبين بإطلاق كل معتقلي الحراك، مرددين: “كلنا الريف، كلنا الزفزافي”. وقد كانت تلك المسيرة صفعة على قفا المخزن الذي اعتقد أنه يستطيع ان يحوّل، بإعلامه الكاذب واتهاماته التحريضية، كل المغاربة من غير الريفيين، إلى “جانجويد” (كلمة كان يطلقها سكان إقليم “دارفور”، عندما كان تابعا للسودان، على تلك المجموعة من السودانيين الذين سخّرتهم السلطة الحاكمة للاعتداء على إخوانهم في “دارفور”، بدعوى أنهم انفصاليون ولهم علاقات مع جهات أجنبية معادية للسودان) ضد إخوانهم الريفيين، كأولئك “الجانجويد” الذين تجنّدهم السلطات للاعتداء على المتضامنين مع الريف في العديد من المدن المغربية.
ممارسات تجرّمها المحكمة الجنائية الدولية:
لكن ما تناسته السلطة المخزنية، وهي تجدّ وتجتهد لإخماد حراك الريف والقضاء عليه باعتقال ومحاكمة وسجن قادته والمشاركين فيه، مستعملة ومكررة نفس الأسلوب القمعي الذي واجهت به مطالب نفس الريف في 1958 ـ 59، هو أن اليوم، ومنذ 2002، توجد محكمة جنائية دولية دائمة، ذات اختصاص ترابي يتخطّى حدود الدول ليشمل كل الكرة الأرضية، والتي يدخل ضمن اختصاصها النوعي، كما يحدده نظام اتفاقية روما، محاكمةُ الأشخاص المسؤولين عن جرائم ضد الإنسانية. ويندرج تحت مفهوم جرائم ضد الإنسانية، كما تعرّفها المادة السابعة من نفس النظام:
ـ «السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي»،
ـ «التعذيب»،
ـ «اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو اثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس أو لأسباب أخرى».
ـ «جريمة الميز العنصري»
وعندما نتأمل ما تقوم به السلطة المخزنية من حصار عسكري وأمني لسكّان الريف وخصوصا بالحسيمة، وما تقترفه في حقهم من اعتقالات واختطافات وضرب وتعذيب ـ حسب ما صرّح به المعتقلون أمام المحكمة وكما يظهر ذلك من خلال آثار الضرب البادية على أجسادهم ـ، ومحاكمات انتقامية ظالمة، واحتجاز في زنازين انفرادية كعقاب إضافي لهم، وما تمارسه من حملة تحريضية “جانجويدية” تخوّن الريفيين وتؤلب عليهم إخوانهم المغاربة، سنلاحظ، بشكل واضح لا لبس فيه، أن هذه الأفعال تنتمي إلى التي حددها الفصل السابع، المشار إليه، كجرائم ضد الإنسانية، تعطي الحق والاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية لمتابعة المسؤولين عنها.
ولا يهمّ أن المغرب لم يصادق بعدُ على نظام اتفاقية روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ـ وهو إقرار ضمني من طرف الدولة المخزنية أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لا تزال ترتكب بالمغرب، وأنها بعدم مصادقتها على اتفاقية روما تريد حماية المسؤولين عن هذه الانتهاكات من أية متابعة قضائية، وإلا فكيف نفسّر امتناع المغرب عن الانضمام إلى اتفاقية روما بخصوص المحمكة الجنائية الدولية؟ ـ، وإنما المهمّ هو أن الجرائم ضد الإنسانية، حسب نظام المحكمة الجنائية الدولية،غير قابلة للتقادم، وبالتالي فمتابعة الجناة تنطلق بمجرد أن يرفع الضحية، أو من ينوب عنه أو أية منظمة أو جمعية لها الصفة، شكاية تخص انتهاكات وقعت بعد 2002، إلى النيابة العامة لذات المحكمة، مع تقديم الأدلة التي تثبت ذلك. وبخصوص هذه الأدلة، فإن ما يعيشه الريف من عسكرة وحصار أمني، وما يُقترف فيه، منذ 26 ماي 2017، من اعتقالات ومداهمات، وتخويف وترهيب للسكان وتحريض عليهم، وما يعاملون به من معاملة لا تخفى مظاهرها العنصرية، أصبح اليوم موثّقا في أشرطة فيديو بالصورة والصوت والحركة، فضلا عن عشرات الشهود. والمسؤولون جنائيا هم الفاعلون والآمرون والمحرّضون. ولهذا لا يتمنّى أي مغربي أن يأتي يوم يحرَج فيه المغرب بإصدار مذكرات اعتقال من طرف الوكيل العام للمحكمة الجنائية الدولية في حق مسؤولين مغاربة لعلاقتهم بانتهاكات لحقوق الإنسان بالريف. ونذكّر أن المسؤولين السودانيين، الذين كانوا يعطون الأوامر “للجانجويد” للاعتداء على جزء من الشعب السوداني، هم متابعون اليوم أمام المحكمة الجنائية الدولية، مع أنهم عندما كانوا يعطون تلك الأوامر لترويع سكان منطقة “دارفور”، لم يكن يخطر ببالهم أنهم سيكونون يوما موضوع متابعة من طرف المحكمة الجنائية الدولية.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.