بقلم جمال الحنصالي.
كأن السنين لم تكن إلا فينة وجيزة .. كأن نور قمر الليلة انبعث من دثار ظلام الأمس في قبسة زمن قصيرة.. اهترأت حبال الكلام في ساحة المهرجان حين انفلتت صيحة “للا فاظمة الرودانية” من بين الجماهير المتجمهرة : إنه بوضراعية ! “وحق الله إلا هو .. هو ..” حينئذ نادى المؤذن بجامع الخميس الكبير لصلاة العصر، فانسكب الدمع يغسل مسالك الفرح الصدئة، ودار ألسنة النسوة في أفواههن المنتشية بالسواك كالرحى تسحق حَبّ خبر عودة “بوضراعية”.
فجأة، توقفت الطبول عن إصدار صوتها، كفت “القرارقب” عن إنتاج رنينها الحاد، “فرقة إسمكان”2 أحجمت حناجر أفرادها عن إطلاق العنان للمواويل الأشبه بالابتهالات…
افتتاح “مهرجان لمهارة” السنوي تعطل للحظات استعمرها السكون.. سكون طال كالمطاط، فالرجل الثري الذي ولج منطقة “لمهارة”3 اليوم بدون تأشيرة ظهرت له معارف قديمة بالمنطقة، أو هكذا يبدو ! لقد سقطت بعض قطرات ندى كذب أبيض على ورود هذا الرجل الغامض.. أقنع الجميع أنه عابر سبيل ليس إلا، وأنه يحب حضور مثل هذه المهرجانات البسيطة شكلا العميقة مضمونا والمظلومة إعلاميا، ثم إن شباب جمعية التضامن للماء الصالح للشرب استبشروا خيرا، حين أكد لهم أنه سيهب الجمعية مبلغا مهما من المال، كما أنه بين عشية وضحاها سيتكلف بتغذية رواد المهرجان والمشاركين فيه، بل أكد على شراء الذبائح وألح أن تكون عجولا..
لم ينتبه له أحد.. لم يكن مثيرا للريبة أو الشك في زحمة الاستعداد للمهرجان، قدم نفسه على أنه مقاول معروف بالدار البيضاء، لكنه يحن لرائحة الجنوب..
ذهول خطف وعي هذا المقاول حين سمع صيحة “للا فاظمة”، وهدأة اعتلته كأنه فعلا يعرف هذه السيدة حق المعرفة، كما يعرف منطقة “لمهارة” شبرا شبرا .. عرش ببصره في كل المناحي يرصد تضاريس دوار “تاروراغت” ويستحضر ألوان دوار “الولجت” ويشتم عبق تراب دوار “الحفاير”.. يتوسل للماضي ألا يلملم أغراضه رغبة في الرحيل، يتمنى من الفلاش باك أن يبرح المكان أن يشاركه لذة اللقاء بأهل “لمهرة” الكرام حاشا “المعلم عبد الجبار” .. فكان له ما أراد، وأصر الماضي أن يزمجر كهدير الرحى كهسيس الرياح في أذن الرجل الثري ذي النظاراتين السوداوين والبذلة البيضاء بياضا مختلفا، ليس مطلقا، فكان بياضا أشبه ببياض قشرة بيض النعام.. فصار هذا البياض ردفا لسواد اللحظة، أو هكذا اعتقد المقاول الزائر على حين غرة.
فراح يتذكر…
في خريف 1982 ساقته الأقدار إلى “المهارة” وهو لا يزال طفلا لم يتجاوز عمره بعد عتبة العشرة سنوات، يتذكر أن والده “سيدي مبارك النعمة” قُتل ونُفيتْ أمه “السالكة بين الغالي” إلى مكان ما في الصحراء جنوب المملكة المغربية.. وأن سائق شاحنة حمراء اللون من نوع ” bedford” انتشله من الضياع وحماه من الجوع وأنقذه من موت كان وشيكا، وأتى به إلى مدينة “تارودانت”4 ..
جاب الطفل شوارع هذه المدينة العتيقة حافي القدمين يترنح جسده الوهن في “ضراعية” سماوية اللون ألف ثوبها العفن فصارا صديقين حميمين..
امتدت، بالصحراوي الصغير الضائع، شمس ظهيرة مدينة “تارودانت” إلى مغيب شمس “المهارة”، كأن القدر يحيك له رواية من زمن آخر.
لقد فُتح باب الذكريات على صرير ذغذغ كيان المقاول، فتذكر حقول دوار “تاسوقت” حين ترتدي فستانا ربيعيا أخضر مرقعا بحمرة شقائق النعمان.. تذكر كيف كان يعامله “المعلم عبد الجبار”، أي نعم هو منقذه من هول الضياع، لكنه كان قاسيا عليه حد الاعتداء ولطيفا معه من عيد لعيد..
الفتى “بوضراعية” كان قليل الكلام، هزيل الجسم لا يقوى على الأعمال الشاقة التي كان “المعلم عبد الجبار” يكلفه بها يوميا، من قلب تربة الحقل فرعي للأبقار إلى حلب الماء.. فكان ملاذه السقاية التي تنبعث من دوار “تريغت” يشكو لها همّه كأنها أمه “السالكة” .. فكلما عصا للمعلم أمرا عاقبه عقابا شديدا ثم يتوارى عن الأنظار.. تراه تحت شجرة يجلس القرفصاء والرعب يكسر أغصان روحه العطشى..
“بوضراعية” أو هكذا يناديه البادي والعادي، إذ أنه لا يجيب عن هذا السؤال: ما اسمك؟ وإذْ كان لا يضع على لحم جسد سوى “الضراعيات” ولم يرتد من اللباس غيرها، صار اسم “بوضراعية” لصيقا به كالظل.
الثري ذو البطن المتدلية على إبزيم حزام سرواله الذي كادت أزراره تنتحر خنقا، أطلق آهة مسموعة وهو يرسل بنظره إلى الأفق، في لحظة صمت مقتطفة من زمن برنامج المهرجان، آهة قوية لا يرد صداها جبل، جعلت جمهور “لمهرة” ساكتا والطبول صامتة والعيون تبحلق يمينا وشمالا والآذان ترهف السمع والأعناق تشرئب والمكروفونات على الخشبة في كمون لا اهتزاز لا أزيز، كأنها تقرأ فاتحة الفرقان سرا.. الخشبة تتحسس دفء الزرابي التي كست أخشابها… الكل ينتظر .. يتعقب ما بعد آهة الرجل الثري .. لكنه أطبق الجفن الأعلى على السفلي، فراح يستعطف شهرزاد الذكريات أن تحكي له المزيد قبل بزوغ فجر يوم جديد.
استجابت شهرزاد وواصلت الكلام المباح، عادت ب”بوضراعية ” إلى صيف 1999، بعد أن كان قد قضى زهاء 17 سنة بين أحضان دوار “تسوقت” وغدا شابا يافعا، يومئذ خيم الحزن على الشعب المغربي طرّا، فسرى تيار بارد في جسد كل مواطن ومواطنة كأنه مس كهربائي ! و”بوضراعية” كالمجنون حافي القدمين كما ألف منذ صباه، يركض وراء خياله على حافة وادي سوس المعتم، يتسلق قمة المحال ويهوي ساقطا متمرغا في الوحل.
ذاك يوم منقوش في ذاكرة الرجل الثري، يوم لبس مشلحا أسود وصاغت فيه نجوم الفرح صغوا.. ليس لموت ملك البلاد فقط، بل حين رأى خنجرا في يد “المعلم عبد الجبار” قادما نحوه وقد استشاط غضبا، غائم القسمات ناويا على الشر ولسان حاله يقول:
قاتلك اليوم وليس غدا يا غدار !
خرجو رجليك الشواري يا بوضراعية.. ليوم نصفيها لك !
أهملت العجل المفضل لدي حتى جرفته مياه الوادي، فتلك مصيبة، والأكثر منها أنك تتحرش بابنتي، ورحت تعبث بشرفها أيها الوغد..
اصطكت أسنان المعلم وجف حلقه، أما ابنته “فاظمة” فقد طاش لبها وكوي فؤادها بنار الندم، منذ أن غاب “بوضراعية”، وهجر “المهارة” حتى زفرت به رياح القدر من جديد..
تقدمت “للا فاظمة” نحو هذا الرجل الثري ترفل في حلة قشيبة من الزي الأمازيغي الآخاذ مما أضفى عليها مسحة من الرونق والبهاء.. وطلبت من بوضراعية أن يفك أزرار قميصه البرتقالي .. في اندهاش كل من يعرف “للا فاظمة” .. الجميع يتسائل مهمهما؛ من أين جاءتها هذه القوه وهي التي لا تجرؤ على مد اليد للسلام على ابن امرأة في الدوار، تولول إحدى النساء في صمت مطبق: حشووووومة !
فتح “بوضراعية” أزرار الحقيقة فظهرت علامة خدش أشبه بجرة قلم أحمر على ورقة بيضاء بالية.
ونطقنت “للا فاظمة”: تذكار رسمه ظفري على صدرك حين راودتكَ عن نفسي، فأبيت يا “بوضراعية”، وقبلت اتهام المرحوم فكان ظلما بائنا، وأنا التي كنتُ السبب في موت العجل الأرقش، فقبلت مجددا بالتهمة عوضا عني، فاستقر حبك في الفؤاد إلى الأبد..
انهجمت عين “بوضراعية” معانقا “للا فاظمة” التي صامت عن الزواج.. وعادت الروح للطبول وزغردت تلك التي كانت تولول..
1* الضراعية: لباس تقليدي خاص بالرجال فضفاض عُرف به سكان الصحراء المغربية
2 * فرقة من التراث الشعبي بمنطقة لمهارة أفرادها رجال ويوظفون آلة الطبل والقراقب..
3* منطقة المهارة تابعة لإقليم تارودانت دائرة أولاد برحيل، الكثافة السكانية حاولي 14000 نسمة، غالبية السكان يعملون في المجال الفلاحي خصوصا تربية الأبقار المنتجة للحليب وبها جالية مهمة خارج الوطن..
4 * تارودانت مدينة مغربية، بجهة سوس ماسة في الجنوب المغربي، وهي واحدة من أقدم وأعرق مدن المغرب، إذ كانت مدينة عامرة منذ أقدم العصور، ولعبت أدوارا تاريخية هامة في تاريخ سوس والمغرب، سواء خلال مرحلة ما قبل الإسلام، أو خلال مختلف مراحل تاريخ المغرب الإسلامي.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.