“الصحة والحرية” قول البدوية!
بقلم الحسين اكناو
إن المعرفة التي لا يختبر تماسكَها وصحتها مخالطةُ العامة، تبقى رصيدا فكريا مثاليا مع نقص التنفيذ. بتعبير آخر، إن الذي يراكم المنتجات النظرية البشرية دون أن يخضعها للتمحيص والتدقيق في منبتها الأصلي الذي هو العلاقات الاجتماعية، كان كمن يحسب وحده، إذ في الغالب يفضُلُ له حيث لا ينبغي أن يفضُل.
ذات مساء عاد، صادفت امرأة بدوية في الخمسين تقريبا، تبادلنا عبارات السؤال المعتادة عن الحال والمآل في اقتضاب ورتابة تفرضهما طبيعة العلاقة المحدودة، ثم قلت بنية إنهاء المحادثة القصيرة: المهم إذا كان الجميع بصحة جيدة فهذا هو المراد، لأن الصحة هي أهم شئ في … قاطعتني السيدة الأمية في شبه نرفزة: الصحة والحرية. قلت متفاجئا: ماذا؟!! فأردفت في ثقة ممزوجة بأسى غريب: الصحة والحرية .. بل قل إن الحرية وحدها هي أهم شيء في هذه الحياة.
لو قالت المرأة “الصحة والهناء” أو “الصحة والمال” أو “الصحة والأولاد” لكان الكلام في سياقه والمقام في مقامه، لكن من المذهل أن تتحدث ، وهي التي لا تقرأ ولا تكتب، عن أهمية الحرية، وتقول إنها تفضل أن تعيش حرة وسقيمة على أن تنعم بموفور الصحة والعافية تحت وطأة أغلال الرق قديمه وحديثه.
كثيرا ما تأخذ العزةُ العارفين بما يعرفون ، وبما قلقوا “معرفيا” من أجل تجميعه مما دونه خَرْطُ قتاد البحث والمطالعة، وشرْطُ حداد التلقي والإنتاج، فيستجمعون تصوراتهم وقناعاتهم الثابتة والمتغيرة عن الوقائع والأشياء، ثم ينزوون في أركانهم النخبوية بعيدا عن العامة، دون أن يُقوِّموا مداركهم العلمية بمقارعة الحجج ومدافعة الآخرين.
إن أكبر حصة من “التّيه” تكون من نصيب المثقف لما يُعرض عن الناس، ويسئ تقدير أهمية ما قد يراكمه أحد البسطاء من تجارب في الحياة قد تفوق قيمة خلاصاتها العملية ما راكمه هو بالبحث النظري، بل أحيانا يكون وقع هذه الدروس الحياتية أعمق في النفس، مما يجعل تأثيرها يدوم العمر كله.
هل كانت لالة فاضمة سيدة مثقفة؟؟ قطعا لا. هل قرأت لروسو أو اطلعت على ديباجة حقوق الإنسان كما وضعتها منظمة الأمم المتحدة؟؟ أبدا. لكن درس الحرية كما تلقته من تجربتها في الحياة جعلها تنشر فسحات للحرية، بمفهومها الفلسفي والحقوقي، داخل بيتها وحيثما حلت، في تحقيق “لعضوية” يعجز عنها أكبر المثقفين المنزوين.
التعليقات مغلقة.