مباشرة بعد الخطاب الملكي الذي انتقد من خلاله الوضع المزري للمنظومة التربوية ،و إشارته إلى خطورة الازدواجية اللغوية التي تطبع لغة التدريس عند الانتقال من المستوى الثانوي إلى المستوى الجامعي و تأثير ذلك على المردودية و جودة العرض التعليمي ،منذئذ انطلقت نقاشات حادة بين أطراف متعددة أريد لها أن تظل وفية للنهج التقليدي القائم على الاستقطاب الاديولوجي و التهييج العاطفي على حساب النهج العلمي و الموضوعي الهادف و المفضي إلى نتائج منطقية و مقبولة.في البدء جمع البوليميك بين دعاة التعريب و دعاة التدريس باللغة الفرنسية،ثم ما فتئ أن تم تجاوز مؤقتا هذا النقاش لصالح الجدال القائم هذه المرة بين دعاة الدارجة و دعاة التعريب.
و كرد فعلي طبيعي ،تلقف المجلس الأعلى للتعليم الرسالة المتضمنة في خطاب الملك ،و فتح الباب أمام أراء الفعاليات و المتدخلين لتقديم تصوراتهم و اقتراحاتهم حول آليات إصلاح التعليم.و لم تتأخر بعض الجهات لتدلي بدلوها في هذا الورش الوطني ،خاصة و أن الميدان التربوي يعد ،في نظر العديد من الأطراف ،رهانا سياسيا و إيديولوجيا قبل أن يكون رهانا اجتماعيا حيويا و مصيريا للبلاد ككل.فقد قدمت جمعيات تعنى بالدفاع عن اللغة العربية مسوداتها الإقتراحية،ثم تبعتها مؤسسة زاكورة التي يرأسها عيوش و ضمنت مذكرتها توصيات رفعتها إلى المؤسسات العليا،أهمها تلك التي تتعلق بالتدريس بالدارجة المغربية والدعوة إلى تهيئة متن اللهجات العامية لتصير لغة قادرة على أداء وظيفة الكتابة.
و سواء تعلق الأمر بذاك الجدال الدائر بين دعاة التدريج و دعاة التعريب من جهة،أو بين دعاة التعريب و دعاة الفرنسة من جهة أخرى،فإن السياق و الظرفية السياسية الحالية تفرض علينا ،من باب الاستيضاح ،التساؤل المشروع عن مكانة اللغة الأمازيغية في هذا النقاش،و عن الأسباب الحقيقية وراء إثارة هذه الزوبعة خاصة تلك المتعلقة بسياق الدعوة إلى التدريس بالدارجة و مدى توفر الشروط العلمية و السياسية لتحقيق المطلب.
تنظر العديد من الفعاليات الأمازيغية إلى مطلب ”التدريس بالدارجة”على أنه شبيها بفكرة أرنب السباق المعتمدة عادة في التظاهرات الرياضية ،إذ أن أرنب السباق لا يروم على كل حال الفوز و إن كان في نفسه شيء من ذلك و لكن دوره يقتصر على تمهيد الطريق ليفوز بطل اخر و بتوقيت قياسي ،نفس المنطق يتحقق و الدعوة إلى التدريس بالدارجة المغربية،حيث أن التدريس بالعامية ليس هو الغاية في حد ذاتها ،بل وسيلة لإثارة نقاش عمومي صوري غرضه جعل النقاش اللغوي المغربي مبتذلا و مميعا في نظر المجتمع و بالتالي تصويره كأنه غير جدير بتعامل جدي من جهة،ثم من جهة أخرى،فاقتراح التدريس بالدارجة غرضه في اخر المطاف ايجاد ضرة للأمازيغية و حصر الصراع بينهما في أفق خلق أقطاب لغوية في المغرب تخدم المصالح الفئوية و لا تبغي تجاوز معضلات المنظومة التربوية خاصة في شقها العمومي ،و محصلة ذلك كله أنه سيتم تقسيم المشهد اللساني المغربي إلى قطب لغوي نفعي تمثله لغات العلم التي تكرس التمايز و التفاوت الطبقي،ثم قطب لغوي تمثله العربية الفصحى باعتبارها ورقة سياسية و اديولوجية في يد التعربيين و التي توفر لهم،عن طريق توظيفها الرمزي،الحظوة و التفوق من خلال استغلالها،ثم قطب لغوي عامي و مبتذل تمثله اللغة الأمازيغية و العاميات باعتبارها فوضى لسانية قاتلة على حد تعبير اللساني الفاسي الفهري.الهدف إذن خلق صراع بين اللغة الأمازيغية و العاميات و بالتالي الانتصار للغة الأجدر و القادرة على توحيد المغرب(كما يسوق التعربيون)ألا وهي اللغة العربية الفصحى ليس لأنها ستحل مشكلة التعليم بل لتكرس الوضع القائم حاليا،و إجهاض المحاولات الحثيثة للنهوض باللغة الأمازيغية.هذه هي النتيجة التي يسعى مفتعلو النقاش اللغوي المغربي إلى الوصول إليها.
إن إثارة موضوع التدريس بالدارجة في محاولة لتقديمها كضرة للأمازيغية و تشتيت الجهود المبذولة للنهوض باللغة الأمازيغية هو رد فعل ألي لفشل المبررات التي ظل المعاديون للمكون الأمازيغي يرددونها منذ الاستقلال ،و كذلك لنجاح للنضال و الفكر الأمازيغي في تفكيك الأصنام الفكرية التي بنيت عليها سياسة تهميش و تجاهل اللغة الأمازيغية في جل الميادين و من بينها التعليم.
النقاش اللغوي المغربي الدائر اليوم أريد له أن ينحو اتجاها يقفز على الحقائق العلمية و السوسيولسانية و يفتح الباب أمام رهانات إديولوجية قديمة بأساليب جديدة تتوخى جعل لغة التدريس مطية للحفاظ النشاز الهوياتي الذي يعيشه المغرب منذ عقود.فبيمنا يجهر دعاة التعريب بانتمائهم الوجداني المشرقي و ظلوا لسنوات يتعاملون مع المكون الأمازيغي على هذا الأساس،تنامى تيار أخر بين أحضان الليبرالية البرغماتية دون أن يجهر بعدائه لتيموزغا،فأصبح يروج للمقولات فحواه أن الهوية المغربية هي تمغرابت،الأمر الذي جعله يفضل التدريس بالدارجة لتعزيز هذه الخصوصية المغربية على حساب المكون الأمازيغي.و سواء تعلق الأمر بخلفيات دعاة التعريب و أو دعاة الدارجة فإن بيت القصيد في نظرهم هو طمس الهوية الأمازيغية للمغرب.فالهوية هي الرهان الذي ترفعه الأطراف المتدخلة في النقاش اللغوي المغربي اليوم ،إذ أن كسب رهان اللغة هو فعليا كسب لرهان الهوية.
و رغم خطورة الدفع نحو اعتماد التدريس بالدارجة و تأثير الخطوة على اللغة الأمازيغية،فإن مكونات في النضال الأمازيغي لم تستوعب الخلفيات و الأهداف المعلنة و المخفية في هذه الخطوة و إن كان القليل من التفكير و استقصاء للتاريخ سيبين أن الاصطفاف إلى جانب دعاة التدريج أكثر ضررا من الاصطفاف إلى جانب دعاة التعريب.حيث أن وثيرة اكتساح الدارجة للأوساط الأمازيغية تزداد يوما بعد يوم ،أضف إلى ذلك أن الناطقين بالدارجة في أجندة التعربيين هم عرب الهوية ،الأمر الذي سيترتب عنه توجيه غير عادل للسياسات اللغوية و الثقافية مستقبلا.
لا يمكن عزل خلفيات و تجليات النقاش اللغوي عن السياق السياسي و التدافع الحزبي،خاصة إذا علمنا أن جل المشاركين في النقاش ينتمي معظمهم إلى الفعاليات السياسية.ثم إن مجموعة من المؤشرات و المواقف المعبر عنها من طرف السياسيين تنسجم مع مرامي النقاش اللغوي القاضية بعرقلة ورش تدريس اللغة الأمازيغية.
ففي هذا الصدد،يجب أن نستحضر موقف العدالة و التنمية من الأمازيغية و التماطل في إخراج القانون التنظيمي لها،ثم محاولة بنكيران رهن أي تعامل مع هذا الملف بإجماع وطني و هو ما يعني كسب مزيدا من الوقت،أضف إلى ذلك الفضيحة السياسية لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي سحب مشروع القانون التنظيمي من البرلمان لينسجم خطه السياسي الراهن بمواقف الحزب الاسلاموي، دون أن ننسى ما عبر عنه الأمين العام لحزب الحركة الشعبية خلال برنامج في ميدي1،حيث أنحى منحى بنكيران في ربط إخراج القانون التنظيمي بإجماع وطني.
إن المعطيات التي نتوفر عليها اليوم،ذات علاقة بملف الأمازيغية،تعد مقدمات لنسف مكاسب الأمازيغية،و إن لم نقل ما تبقى من المكاسب،و لهذا فلا يجب أن يغطي سحاب النقاشات اللغوية المفتعلة جوهر الإشكالية و المتمثلة أساسا في مكانة الأمازيغية في الهوية و الثقافة و المنظومة التربوية المغربية.
التعليقات مغلقة.