التسلية السياسية والوهم الثقافي
السياسة الثقافية مفهوم يرتبط بمجال الاقتصاد والتنمية الثقافيين ويرتبط أيضا بإنشاء مؤسسات وهياكل فاعلة في الشأن الثقافي، باعتبارها المركز الأساسي لكل سياسة ثقافية بنشاطها وصدق اشتغالها، فالدولة مطالبة باستغلال كل مواردها التي بإمكانها أن تخدم الثقافة خصوصا ما يسمى بالمورد البشري لأنه يعد عنصرا أساسيا يفكر ويخطط ويُفعل ويراقب ويقيم. ويتميز بالمقدرة على الإبداع والابتكار وهي صفة بشرية مميزة رافقت الإنسان منذ وجوده وهي أحد مفاتيح تقدمه واستمراره، وتفعيل طاقات الأدمغة الكامنة في المجتمع والسعي لاستغلالها لمصلحة التطور ضرورة ملحة على كل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.
فالموارد البشرية هي منبع الطاقات الكامنة ومحرك التطور في كافة المجالات، ومنها المجال الثقافي المفروض عليه أن يستجيب في طبيعة برامجه وأهدافه إلى طبيعة المجتمع ومتطلباته، فنجاح أي قطاع رهين بتوفره على أدمغة وكفاءات تؤمن المناخات المتنوعة وبالتالي تحقيق الإنجازات المطلوب تحقيقها على المستويات كافة.
فالدولة العصرية اليوم عليها أن تمنح أفرادها فرص اقتحام المجهول وخوض المغامرات عن طريق تنفيذ مشاريع مستقبلية واكتشاف قدراتهم الإبداعية الكامنة وتزويدهم بمفاتيح أسرار النجاح، فالتطلع إلى الأمام يستوجب اليوم التركيز على الأدمغة البشرية المتفوقة عوض التركيز على العلاقات الاجتماعية المشبوهة في تقلد المناصب المبنية على ما يسمى ( الزبونية والمحسوبية) وهي من أسباب ركود السياسات الثقافية، وسم قاتل لشباب أفنى عمره في مقاعد المعاهد والجامعات ومؤسسات التحصيل العلمي.
لقد تمكنت السياسة من التوغل عميقا في حياة المجتمعات إلى درجة التحكم في مستقبل أفرادها، وأصبح الانتماء السياسي واللون الحزبي معيارا وشرطا في تقلد بعض المناصب خصوصا داخل بعض القطاعات فأصبحت السياسة أداة سيطرة وحكم وتوجيه تتحكم في مصائر الأفراد والمجتمعات، فمصطلح (السياسة) يشير إلى عالم القوة والفعل والمصلحة والسلطة في حين أن مصطلح (الثقافة) يشير إلى عالم المعرفة والعقل والإدراك والنظريات والقيم والأخلاق والفنون. من هنا فالعلاقة غير متكافئة وهذا ما نتج عنه غياب معيار الكفاءة كشرط في تقلد المناصب والوظائف العمومية في كافة القطاعات خصوصا القطاع الثقافي الذي غيبت فيه الثقافة والكفاءة على حساب الانتماء الحزبي والعلاقات الاجتماعية المبنية على المصلحة المتبادلة.
نجحت أغلب الأنظمة السياسية خصوصا في الدول النامية في فرض هيمنتها على المؤسسات والهياكل الثقافية وجعلتها في خدمة السياسي قبل الثقافي وعلى حسابه، وهذا ما يجعل المؤسسة الثقافية تتحرك داخل إطار ضيق ومجال محدود تُغيب فيه الكفاءة لإسناد الأمور لغير أهلها، وتبقى الكفاءات الشابة مجرد أرقام ضمن مؤشر البطالة، فغياب الكفاءة رفعت من الوضيع إلى رتبة الرفيع وساوت بين الهجين والعتيق. وهنا تصبح هجرة الكفاءات والأدمغة لها ما يبررها. ففشل خطط تنمية الإنسان اقتصاديا واجتماعيا علامة استسلام أمام عوامل تهميش المثقف صانع التنمية وهدفها والدفع به للهجرة، ليعيش المثقف المغربي تجربة تشتمل على عنصر الغربة والضياع في مجالات مختلفة.
فالأشخاص الذين تصاب بهم الأمم والمجتمعات وتحتملهم الشعوب على مضض، أولئك الذين رفعتهم المحسوبية على كواهل من حديد تربطهم وشائج وعلاقات مختلفة يتخطون بها رقاب الأكفاء فإذا هم بعد برهة في أعلى برج الحياة يشرفون من عليائهم على من هم أطول باعا وأرجح في ميزان الكفاءة وقد انتفخت أوداجهم وورمت أنوفهم.
فكثيرة هي مباريات التوظيف في قطاعات هامة كالثقافة يشارك فيها شباب خريجي المعاهد والجامعات فقط ( كومبارس) لشرعنة المباريات وصبغها بطلاء المصداقية ضاربين عرض الحائط كل ما له صلة بالمسؤولية والمهننة والكفاءة . فنجحت الدولة في سياسة التجويع والتهميش وفشلت في باقي السياسات التنموية الأخرى، إننا نعيش في العصر الحالي التسلية السياسية والوهم الثقافي.
فنجاح أي سياسة سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية رهينة بالضمير المهني والتحلي بالمسؤولية والمصداقية، وهذا أمر صعب في الوقت الحالي خصوصا مع توسع مجال الامتيازات والصلاحيات داخل المؤسسات السياسية وتجاوز مسألة ما تسمى مجازا بربط المسؤولية بالمحاسبة في العديد من القطاعات التي غيبت المثقفين من حساباتها سواء فيما يخص الاستشارة أو فيما يخص الاستفادة منهم في تولي المناصب المناسبة لهم وللدولة الحديثة، فالحداثة رائدة والعقلانية منطلقة على حد قول هابرماس، لذلك على المثقف أن يشارك وينخرط ويتدخل في الشأن العام، ويضيف إلى شرعية المعرفة شرعية ممارسة المعرفة.
التعليقات مغلقة.