الادب الحكائي الامازيغي: الحلقة السابعة: قصة “أمحضار” في العالم الآخر.
أزول بريس – الحسن زهور //
في هذه الحلقة سننتقل من الحكاية الى القصة ، قصة تدخل ضمن ما يشبه بملحمة شعرية، او لنقل انها بقية من ملحمة شعرية وصل الينا منها 125 بيتا شعريا بفضل المستمزغ روني باسي التي دونها، ولو لم يفعل فلن يصل الينا من هذه القصيدة/القصةالا 45 بيتا التي سجلها الرايس “بوبكر انشاد” في أغنيته المشهورة بنفس العنوان. وعادة الامازيغ انهم لا يرفعون قصصهم الى مستوى النظم الشعري إلا إذا كانت ذات قيمة دينية أو أخلاقية قيمية أو أسطورية، كأسطورة حمو أنامير ، وقصة فاضل، و مثل هذه القصة التي سنتناولها في هذه الحلقة والتي ستنقلنا الى العالم الآخر اي عالم الجنة والنار.
فقد خلدت لنا الآداب الإنسانية روائع أدبية ترتبط بالخيال الادبي الذي جنح بأصحابه الى العالم الآخر اي عالم الجزاء الأخروي: الجنة والنار، جسدها الادباء عبر رحلات خيالية قاموا بها الى ذلك العالم اي عالم ما بعد الموت فزاروا الجنة والنار وتحدثوا عنهما كل حسب هدفه من رحلته، مثل رسالة الغفران لابي العلاء المعري والكوميديا الإلهية لدانتي…
مع ان بعض الاساطير الإنسانية المرتبطة بالآلهة وبالاديان تحدثت هي الأخرى عن ابطال او آلهة قاموا برحلات هبوطا الى عالم ما بعد الموت أو العالم السفلي الذي هو عالم العذاب والشقاء الابدي( رحلة عشتار..)، او طلوعا الى العالم العلوي حيث الآلهة ونعيمها، ونفس الشيء في قصص الصعود الى السماء في الديانات السماوية.
في الادب الامازيغي تطالعنا القصة الشعرية ” قصيدة الصبي” او ” لقيصت ن ؤمحضار”، دونها روني باسي Renè Basset سنة 1879 بعنوان ” poème de ṣabi” في:
” journal asiatique, série 7,t.13(1879
ودرسها بعده هنري باسي في كتابه
” Essai sur la littėrature des berbères “، وصيغت هذه القصة الامازيغية شعرا في 125 بيتا. وتتحدث عن عالم الآخرة وعن الأخلاق والعلم ودورهما في الجزاء الأخروي.
لم تسهب هذه القصة الشعرية في وصف الجنة أو النار لتطلق العنان للخيال، أم أن ما وصل الينا ودونه “روني باسي” أصابه ما يصيب الادب الشفوي من الانجراف شبيه بانجراف التربة، وبقي من هذا الجزء.
المهم والاساسي في القصة بقي حيا بواسطة الشعر، وغناها الرايس بوبكر انشاد(توفي 1950) فخلدها في أغنية له بعنوان ” أمحضار” مختصرة إذ لم تتجاوز الابيات فيها 45 بيتا، كما ترويها الامهات نثرا كأدب حكائي( سبق لي أن سمعتها في صغري).
تتحدث هذه القصة الشعرية عن ابن توفي ابواه، والتحق بالمسجد لتعلم القرءان وتفرغ للعلم ليصبح حاملا للعلم والمعرفة. وتمر السنون نافعا بعلمه، ويحين دوره ككل كائن حي فيموت، ليحل يوم الحساب وتوزن اعمال الناس( تصف القصة الشعرية هذا اليوم)، ويدخله علمه الجنة. و تنعم في قصور الجنة العالية، إلى أن أخبرته جاريته بأن ابواه في النار. فتكدرت نفسه وبكى وتضرع إلى الله أن يعفو عنهما، فقال له الله: اذهب فقد عفوت عن أحدهما أما الآخر فسيبقى في النار جزاء لمعصيته لي. فخرج الابن من الجنة متجها الى جهنم ضاحكا حينا وباكيا حينا آخر. ضاحكا حين يذكر عفو الله على أحد والديه، وباكيا حين يتذكر بقاء الآخر منهما في النار. يصل إلى جهنم فيجد خازنها جالسا على عرش من النور فوق لهيب النار المتطاير وممسكا بعمود ناري ملتهب، يسأله الخازن عن سبب مجيئه لأن هذا المكان لا يليق به كحامل للعلم وللقرءان، فيطلب الابن ان يخرج اليه ابواه، فاستفسره الخازن عن صفاتهما، فوصفهما الابن. دخل الخازن الى جهنم وقطع بحور النار ووديانها باحثا عنهما الى ان وجدهما في بئر عميقة هناك فأخرجهما. فلم يتعرف عليهما ابنهما بادئ الأمر فتراجع وأنكرهما لتفحم خلقتهما و بشاعة حالتهما، فأكد له خازن النار بأنهما والداه. اراد الابن الرجوع لكن عاد الى رشده عندما سمع أباه يقول له: لماذا يا ابني هربت منا؟ لماذا هربت الآن من ابوبكر اللذين تعبنا في الدنيا من أجلك؟ أهذا جزاؤنا؟ ويجيبه الابن: لم اتعرف عليكما وانتما في هذه الحالة من التفحم. ثم يسأله الابن عن سبب هذا العذاب. فيجيبه الأب بأنه نتيجة آثامهما, وبأنه كان قاطع الطريق..
فطلب الابن من الخازن ان يدعها ليرافقانه الى الجنة، لكن خازن جهنم لم يأذن الا لواحد منهما كما أمر بذلك، فعلى الابن الآن ان يختار ايهما سيرافق، هل الأب أم الأم.
فالتفت الابن الى الابوين قائلا : اختارا، يا أبي ويا أمي، من منكما سيرافني الى الجنة، لأن أحدكما سيبقى هنا، ولكما الخيار.
تكلم ابوه قائلا: رافق أمك يا ابني، اود ان تخرج أمك من هذا المكان، فقد تحملتك جنينا ثم رضيعا، وعانت كثيرا، ومن أجلك تحملت الآلام والمشاق. أنا يا ابني سأبقى هنا واستحق هذا لسوء ما عملته في الدنيا. إذهبا فقد ألفت العذاب في عالم الدنيا حتى غدا قلبي صلدا كالحديد وسأتحمل به هذا العذاب الذي أنا فيه الآن. هنا تدخلت الام واعترضت قائلة: يا ابني ابوك قدم لنا خدمات كثيرة، و اجتاز سبلا شتى تحمل فيها البرد والقيظ من اجلنا، فأبوك أحق بالجنة مني انا المذنبة الكثيرة الآثام، أنا سأبقى هنا، فقد ألفت في عالم الدنيا الآلام والشقاء الى ان اصبح قلبي كالحديد لأتحمل به هذه النار الحارقة صابرة. لكن الابن لم يرد ترك ايا منهما، فأجهشوا جميعا بالبكاء. إذ ذاك ارسل الإله ملكا ليخبر الابن بأنه عفا عن أبويه، وأمر خازن النار بأن يخرج من النار كل من له علاقة بالابن جيرانا كانوا أو معارف القريبين والبعيدين منهم، وكل من له صلة قرابة او معرفة إلى حدود سبعة أجيال من اجداد الابن جميعا.
فأخذ الابن ابويه الى نهر بالجنة فاغتسلا سبع مرات الى ان ازيل عنهما سواد جهنم ورائحتها.( لم يرد هذا الاغتسال في القصيدة، تذكرته كنهاية لهذه القصة المسرودة نثرا والتي سمعتها في صغري).
تستوقفنا في هذه القصة الملاحظات التالية:
– ان الادب القصصي الامازيغي عرف بدوره أدب الرحلة الى العالم الآخر، وطبع بالطابع الاسلامي، لكنه لم يكتب، وما نجا منه من الضياع اندثرت معالم كثيرة منه فجعلته لا يرقى إلى شبيهه المكتوب لدى الأمم الأخرى( رسالة الغفران، الكوميديا الإلهية..)، وهذا طبيعي.
– دور العلم والمعرفة والأخلاق في السمو والنجاة، فعلم الابن كان سببا في قبول شفاعة الابن عن ابويه وعن كل معارفه كما شمل العفو سبعة أجيال من اجداد الابن وكل من له علاقة بهم.
– أجمل ما في هذه القصة الشعرية هو المشهد الانساني بين الابن والأبوين في حوارهم المؤثر، و خصوصا مشهد الاختيار بين من سيلتحق منهما بالجنة ومن سيبقى في النار، وكل منهما يوثر شريكه على نفسه ويطلب منه الالتحاق بالجنة، مشهد يعطي صورة عن قوة العلاقة الانسانية التي تجمع بين الرجل وشريكة حياته في ثقافتنا المغربية الأصيلة قبل ان تمسخها الافكار المتزمة الواردة مع الوهابية وغيرها والتي لا ترى في المرأة إلا عورة ووعاء للانجاب والتمتع …
ذ. الحسن زهور
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.