تعتبر الأراضي الجماعية بنية داخل نظام سوسيو اقتصادي أوسع يشمل مجموعة من المؤسسات المتكاملة فيما بينها، هذا النظام يمكن تشبيهه بعقد متناسق الحلقات والمكونات ،إذا انفرط خيطه الجامع أو فقدت واسطته أ وبعض عناصره الأساسية فقد قيمته المادية والرمزية.
بهذا التصوير يمكن أن ندرك أن فصل الأراضي المشتركة عن مؤسستها الحاضنة الكبرى أي القبيلة و تفريعاتها وعن المؤسسات الاجتماعيىة الأخرى التي تتكامل معها وتدور في فلكها، سيعني القضاء على نظام اجتماعي ساد لقرون طويلة ،وأبان عن نجاعته في الحفاظ على تماسك المجتمعات القبلية وتعزيز قدرة العشائر والأسر على مقاومة الإكراهات التي فرضتها الطبيعة في وسط غير مضياف .كما أبان عن توفقه في صد الأطماع الداخلية والخارجية في المتوفر من خيراتها وإمكانياتها الاقتصادية رغم شحها في الغالب من الأحيان.
من تلك المؤسسات التي خدم بعضها بعضا في تكامل وانسجام :الجماعة (لجماعت) بأصنافها ومستوياتها المختلفة ،فهذه المؤسسة هي واسطة العقد في النظام ومجال عملها واختصاصاتها يمتد ليشمل كل الشؤون العامة والمشتركة بين سكان القبيلة أو الفرقة أو الدوار. ولا شك أن موضوع الأرض المشتركة باعتبارها المرتكز الذي تعتمد عليه معيشة الأسر يحتل مكانة محورية ضمن اهتماماتها ،ففي هذا المجال هي التي كانت تقرر في طرق الانتفاع بالأرض وفي توزيعها بين الأسر وضبط حدودها وحمايتها وفق أعراف وتقاليد متوارثة ، كل ذلك كان قبل زرع “الجماعة السلالية ” كنبتة طفيلة في وسط غير مؤهل من طرف الإدارة الفرنسية ،وانتزاع ما منح لها من اختصاصات من المؤسسة الأصيلة “الجماعة”.
وتكريسا لعلاقة التداخل والتكامل بين المؤسسات ونظم التدبير ،نجد أن استغلال الأرض الجماعية في الحرث وغيره من الأشغال الفلاحية يتم عن طريق العمل الجماعي التطوعي المعروف باسم “تيويزي أو التويزة أو تاويزا حسب المناطق”. وهذا العمل يتم إما لفائدة الأسر أو مؤسسات أخرى كالزوايا أو المساجد .ولم يستعمل لغيرها إلا مقرونا بالإكراه والفرض القسري.
وارتباطا بعناصر النظام المذكور، نجد أن الزوايا تشكل بنية من بنياته الأساسية بتخصصها في توفير أسس مدعمة تتمثل في التأمين الاجتماعي في حالة المخاطر الطبيعية التي قد تصيب المحاصيل الزراعية كموجات القحط والجفاف أو الموجات الوبائية التي تصيب السكان .كما يمكن أن توفر غطاء وملاذا آمنا في حالات الطغيان والجبروت المسلط من طرف السلطات الحاكمة وأعوانها المحليين.
والزوايا بدورها كمؤثر وفاعل داخل النظام ، تعتمد لأداء مهامها على مؤسسات موازية تتجسد في المخازن الجماعية + (إيكودار) Les greniers citadelles ou les greniers (magasins collectifs) المنتشرة خصوصا في الأطلسين الصغير والكبير وسوس . فهذه المخازن المنتشرة في كل القبائل والقرى تحقق
Voir R .Montagne /Les berbères et le Makhzen ou J. Meunier ,les greniers citadelles
وتوفر شرط الادخار اللازم لكل عمل اقتصادي و تقوم بدور التجميع ولعب دور الوسيط Relais بين مصدر المساهمات من جهة :القبيلة وتفريعاتها والأسر والأفراد عبر الغرف (إيحونا ن شيخ) ، والزاوية المركزية التي تحتضن المخزن المركزي (تيسقي مقورن أو أحانو ن إيحونا). (نموذج لإدارة المدخرات الجماعية التكافلية يجسده النظام التعاقدي بين زاوية إيمي ن تاتلت وقبائل الأطلس الصغير الشرقي)
الحصن المركزي الذي يشرف عليه شخص تختاره القبيلة المحددة في وصية الشيخ المؤسس (أفقير ن زاويت) يتولى توزيع الإعانات والمساعدات على المستحقين ويستقبل اللاجئين من مختلف القبائل في حالات الكوارث والأوبئة والمجاعات .
إن الزاوية بهذا المنحى انتاج اجتماعي أنشئت لتلبية حاجات أساسية تتمثل في الأمن الروحي والرعاية الاجتماعية عند الضرورة ، وهي نظام يقترن فيه الأخذ بالعطاء والخدمة بمقابلها.
وهكذا نجد أن الأرض الجماعية تخلف ريعا اقتصاديا مهما لا سيما في سنوات الخصب، جزء مهم منه تغطيه الحبوب وثمار بعض الأشجار الغابوية .
وفي كل مراحل الانتاج وتحصيله يتم اللجوء إلى خدمات مؤسسة أخرى “تيويزي”، ويتم توجيه جزء من المحاصيل إلى المؤسسات الموازية: الزوايا والمساجد والمدارس العلمية بالقبائل ، مقابل خدماتها في مجال التربية والتعليم والرعاية الاجتماعية وغيرها. هناك إذن ولاء مقابل ولاء Allégeance mutuelle (بعض العقود العرفية بين القبائل وبعضو حتى الزوايا حددت حجم المساهمات وحصرتها في نسبة جد بسيطة لضمان استدامتها ،كما أصرت على المساهمة بالمحاصيل الأقل جودة لنفس الغاية)
وضمن المؤسسات الضامنة لاستقرار النظام بنيات التحالف Les coalitions وضمنها قديما في سوس والأطلسين الكبير والصغير “أسماس” وفي مناطق أخرى كالأطلس المتوسط وزمور وزعير و تافيلالت والأطلس الكبير الشرقي “تاضا”.هذا التحالف الأخير، الذي يفترض أخوة روحية تفوق الأخوة البيولوجية بين الأفراد أو الجماعات المنتمية للقبائل المتحالفة ، أفلح وفق طقوس متوارثة، في إرساء السلم والتضامن والوئام بين القبائل، وتوفق في وضع حد لحالة النزاعات والاقتتال الدائم بين الأفراد والأسر، ولا شك أن هذا النظام ساهم في إرساء التآخي بين قبائل متناحرة مثل أيت عطا وأيت يافلمان وحال دون انهزامها مبكرا من طرف المستعمر الفرنسي .
طقوس تاضا – مولود عشاق –العلم الثقافي عدد 13 يوليوز 1996
إن غياب هذا الإطار المؤطر والحاضن للأرض الجماعية منذ عقود طويلة جعل منها مجرد غنيمة عند البعض واحتياطا عقاريا ثمينا بالنسبة للطامعين في الاستثمار المربح .
وما المحاولات التشريعية والإدارية المتوالية لحل الإشكاليات التي تطرحها اقتصاديا واجتماعيا إلا استمرار في أخطاء اقتباس نماذج غربية وفرنسية على الخصوص وزرعها في وسط ثقافي واقتصادي غير مؤهل.
ينطبق ذلك على تجربة الجماعات الترابية ، في الوسط القروي خصوصا ،التي لم تفلح لحد الآن لا في تنمية الوسط والمحيط ولا في تحقيق التنمية البشرية وتحسين الظروف المعيشية للسكان .فالشرط الأساسي لكل تنمية والمتمثل في الثقة trust بين الأطراف المعنية غائب، ونظام اختيار العنصر البشري المكلف بالتدبير على حاله ،أي الانتخاب، لا يساهم إلا في فرز المغامرين والانتهازيين والشعبويين خلافا للطرق المتبعة “زمن تاجماعت”. وشتان ما بين “أنفلوس” والمستشار ؤاقتبس من وراء الحدود.
هناك إذن أربع أو خمس مؤسسات أساسية متكاملة ساهمت من خلال أعرافها وتقاليدها وإمكاناتها المادية في استدامة الأراضي الجماعية كموروث ثقافي، لقد فقدناها الواحدة تلو الأخرى بعد الضربات المتوالية التي تلقتها منذ الغزو الفرنسي، وفقدنا معها حتى المقدرات اللغوية والتعبيرية التي كانت تعتمد في التداول واتخاذ القرار.لم يبق إذن إلا إدارة الهياكل والرواسب وعرض المسكنات Palliatifs الإدارية والقانونية أمام انعدام الإرادة السياسية و تجاهل الاحتكام إلى الإبداع والابتكار استنادا إلى الإيجابي في ثقافتنا والرضوخ لسياسة النقل والاقتباس.
لقد فرطنا في رأس مال اجتماعي ثمين ولم نبادر إلى استخراج وتوظيف تجاربه. ويخشى أن تنطبق علينا توقعات بعض الاقتصاديين والمفكرين المعاصرين Fukuyama-Putnam بإضاعة فرص الالتحاق بركب الشعوب المتقدمة في القرن الواحد والعشرين لمجرد إهمال رأس مال اجتماعي كان بالإمكان توظيفه.
التعليقات مغلقة.