أوريد : مشكلتنا مع الجزائر ليست الصحراء، جوهرها هو انعدام الثقة
أزول بريس
حوار مع حسن أوريد عن عربي بوست
قال المؤرخ والمفكر المغربي والناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، حسن أوريد، إن “هناك ثلاثة سيناريوهات في أزمة العلاقات المغربية الجزائرية: يتمثل الأول في بقاء الوضع على ما هو عليه، والثاني في مواجهة ستكون مُدمرة، والثالث يتجسد في النظرة العقلانية، من خلال احترام مكونات كل بلد المُتمثلة في وحدته الترابية، وفي نظامه، وخياراته الاستراتيجية، مع تغليب المصلحة المشتركة”.
أضاف أوريد، في مقابلة خاصة مع “عربي بوست”: “نحن في مفترق طرق، وأتمنى أن تسود الحكمة والتبصر والهدوء في التعاطي مع هذا الملف خدمة لمصلحة الشعبين والبلدين، وأتمنى أن يسهم هذا الحوار الذي أجريه معكم في تغليب السيناريو الثالث الذي يعوّل عليه الكثيرون في المغرب والجزائر”.
فيما تطرق أوريد إلى الأسباب والجذور التاريخية للأزمة بين المغرب والجزائر، مؤكداً أن قضية الصحراء المغربية ليست هي جوهر المشكلة بين البلدين، لأنها من وجهة نظره مجرد “عَرَض”، خاصة أنه كانت هناك مشكلات أخرى قبل وجودها، لافتاً إلى أن “جوهر المشكلة هو انعدام الثقة (بين الطرفين)، وهو الأمر الذي يتم التستر عليه من خلال توظيف أحداث، أو تأويل أحداث واهية”.
وفي الوقت الذي كشف فيه الناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي المغربي عن وجود وساطات مستترة من قِبل مصر والسعودية وجامعة الدول العربية لإنهاء الأزمة بين البلدين، استبعد قيام فرنسا بلعب دور ما في هذه الوساطة، لأنها “غير مخولة أو مؤهلة لهذا الدور، بسبب ماضيها الاستعماري، وسيكون ذلك تبريراً ضمنياً للاستعمار”.
بينما أوضح أنه لا يستطيع التكهن بنتائج الوساطات الجارية؛ فكل عمل دبلوماسي تكتنفه السرية، مضيفاً: “أي وساطة لن تكلل بالنجاح إذا رفضها أحد الأطراف، والمغرب مد يد الحوار في أكثر من مناسبة، لكن لا يمكنني التحدث فيما يخص الطرف الجزائري، وأي وساطة تقتضي موافقة الطرفين”.
وفيما يلي نص المقابلة الشاملة:
كيف استقبلتم قرار الجزائر الأخير الخاص بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب؟
استقبلته بعدم ارتياح لما يربط الشعبين من علاقات وثيقة، وإن كانت العلاقات على المستوى الاقتصادي والسياسي في مستواها الأدنى، إذ كانت الحدود مُغلقة، بل لم تكن هناك علاقات من الناحية العملية. أما من الناحية الرمزية فالقرار يبعث على الأسى؛ لأنه يُغلق أبواب الحوار، وبشكل عام لم يكن هناك ارتياح لهذا القرار في المغرب.
برأيكم، ما الأسباب التي أدت إلى تلك الأزمة؟
لا بد أن ننطلق من تصريح وزير خارجية الجزائر رمطان لعمامرة، الذي أشار فيه إلى “أعمال عدائية”، وهذا التصريح يقتضي القراءة، وإن كان لكل إنسان الحق في تأويل الأمور كما يريد، ولكن كمؤرخ ينبغي أن ننظر للأمور نظرة موضوعية، أولاً تجدر الإشارة إلى الحرب بين الدولتين والمعروفة بحرب الرمال، وهو أمر يقتضي وقفة، لأنه في السرد الجزائري يكتسي أهمية، والحقيقة أنه لا يُعرض موضوعياً أسباب تلك الحرب، والسياق التي نشبت فيه عام 1963؛ فهي تُقدّم على أنها خلافات حدودية بين بلدين أحدهما خرج للتو من الاستعمار منهوكاً وجريحاً، وهو كذلك، لكن الأمور أعمق؛ فأسباب التوتر كانت سياسية وأيديولوجية؛ فقد كانت الجزائر تحتضن المعارضة، وتبين أن هناك أعمالاً لمحاولة لقلب نظام الحكم على أيدي عناصر من المعارضة المغربية، وهو ما دفع المغرب للرد، من خلال استرداد بعض النقاط التي كانت تُستخدم من قِبل الثوار والمجاهدين في الجزائر، وما حدث هو أنه تم ذبح الجنود المغاربة، مما أشعل فتيل الحرب.
إذن فأسباب الحرب لم تكن مشاكل حدودية بقدر ما كانت مرتبطة بالأساس باحتضان الجزائر للمعارضة المغربية، وضلوع هذه المعارضة في محاولات قلب النظام، وما يؤكد ذلك تصريح الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلا الذي قال إن الحدود بين البلدين هي بالأساس حدود أيديولوجية. وفي اعتقادي اختزال القضية في مشكلة الحدود هو “ذريعة”، وأن المشكلة الأساسية هي طبيعة النظام السياسي، من منظور جزائري.
وحين نقرأ بيان وزارة الخارجية الجزائرية، وتصريح رمطان لعمامرة عن قرار عام 1994 عندما أقدم المغرب على فرض تأشيرات الدخول على الجزائريين باعتبار أنه “خرق سافر” لمعاهدة ما يسمى اتحاد المغرب العربي؛ فهذا القرار اُتخذ في سياق معين وهو أن الجزائر كان لديها أولويات بعد إيقاف المسلسل الانتخابي (يناير/كانون الثاني 1992)، وأيضاً مواقف الجزائر في الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيما يخص قضية الصحراء المنافية لمنطوق وروح معاهدة اتحاد المغرب العربي، إلى جانب الحملات الإعلامية التي تعرّض لها المغرب والملك الحسن الثاني عام 1993 بعد حوار مع جريدة الشرق الأوسط، عرض فيه للعملية الانتخابية في الجزائر، وأبدى رأيه كـ”محلل سياسي” -بحسب كلامه- على أساس أن يكون تولي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحكم نوعاً من مختبر، وهو الأمر الذي أثار حفيظة السلطات الجزائرية، وهذا السياق هو ما هيأ لقرار فرض التأشيرات، بعد العمل الإرهابي الذي ضرب مراكش سنة 1994.
وطبيعة العمل الدبلوماسي هي “الرد بالمثل”، لكن الذي حدث أن الجزائر لم تكتف بفرض التأشيرات، وإنما بإغلاق الحدود البرية. وبالنظر لما كانت تمر به الجزائر من ظروف في هذا الوقت، ربما كان ذلك ذريعة لحفظ الأمن داخل الجزائر.
أما في عام 2004؛ فقد أعلن المغرب من خلال خطاب ملكي وقف العمل بالتأشيرة، وهو ما ردت عليه الجزائر بقرار مماثل دون أن تشترط تقديم اعتذار، لذا يجب عرض الوقائع كما هي وأسبابها ومسبباتها وسياقها.
وبوجه عام فإن الأسباب السابقة كلها مجرد “ذرائع”، وجوهر المشكلة يكمن في انعدام الثقة بين النظامين.
لكن هل النظام المغربي يتحمل جزءاً من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع بين البلدين؟
أوجه إليك السؤال، كيف نفسر قرار طرد 45 ألف مغربي ولدوا في الجزائر وعاشوا فيها؟ أو طرد مزارعين مغاربة كانوا يعملون في إحدى المناطق الحدودية، وهل إقامة مناورات عسكرية بالذخيرة الحية على الحدود المغربية تعتبر عملاً ودياً؟؛ فإذا كنّا نروم الموضوعية فينبغي النظر إلى الصورة كاملة، ومَن يريد أن يكون “محقاً” يجد التبريرات والذرائع ليؤكد صحة زعمه، لكن جوهر المشكل هو انعدام الثقة، وهو الأمر الذي يتم التستر عليه من خلال توظيف أحداث، أو تأويل أحداث واهية.
بالتالي، هل تتحمل الجزائر المسؤولية الكاملة عن هذه الأوضاع؟
الأمر بالنسبة إليّ مرتبط بعدم الثقة، وسأسرد عليك موضوعاً ولك أن تؤوله كما تشاء: في أغسطس/آب 1999 نشرت وكالة الأنباء الفرنسية أنباء عن تسلل عدد من المسلحين الجزائريين عن الجماعة المقاتلة إلى الأراضي المغربية بعد قيامهم بأعمال عنف بإحدى المناطق الحدودية (بني ونيف)، وسرعان ما تطور الأمر إلى أزمة بين البلدين، أعقبتها تصريحات تهاجم الشعب المغربي فضلاً عن النظام المغربي، وهناك خطاب مشهور للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في مدينة بشار الجزائرية احتوى على شتائم للشعب المغربي، وفي مايو/أيار 2003 أصدر رئيس الأركان الجزائري محمد العماري تصريحاً يفنّد فيه ادعاءات تسلل هذه العناصر إلى الأراضي المغربية.
والجميع يعرف أن المغرب قدّم يد المصالحة والحوار في العديد من المناسبات، كان آخرها من خلال خطاب في نهاية شهر يوليو/تموز ركّز بالأساس على العلاقات المغربية الجزائرية، وقال الملك إن العلاقات بين البلدين ليست علاقة أشقاء، وإنما “علاقة توأمين” وما يمس الجزائر يمس المغرب، وأن المغرب لا يريد إلا مصلحة الجزائر، لكن لم يكن هناك رد من الجانب الجزائري أو تجاوب مع هذه اليد الممدودة للحوار.
برأيكم، ما الذي يمكن أن يقدمه المغرب كخطوات عملية للانفتاح على الجزائر لإنهاء الأزمة؟ وماذا ينتظر المغرب من الجزائر؟
لا أعتقد أن المغرب في الوقت الحالي سيقدّم أكثر مما ذكرته، خاصة بعدما قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، وهناك مرجعية، وهي خطاب الملك في مناسبة عيد الجلوس، والذي قدّم فيه عرضاً لطرح كل القضايا العالقة في إطار حسن الجوار، والحوار، والثقة.
أما ما ينتظره المغرب من الجزائر – وحديثي هنا بشكل شخصي، فلست في موقع مسؤولية، ولست متحدثاً باسم أي جهة– أولاً قناعتي وإيماني الراسخ والعميق بالوحدة المغاربية، كما أتمنى ألا يتطور الوضع لمزيد من التوتر؛ فنحن نعيش فترة دقيقة وصعبة؛ فقد انتقل التوتر من مرحلة لا يمكن التحكم بها، إلى وضع غير متحكم فيه، والأسوأ وارد وسيكون لو حدث مُدمراً للبلدين؛ فالحرب ليست نزهة، “ولا لعب صغار”، كما كان يقول الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، ولن يكون فيها غالب ومغلوب، بل سيكون البلدان مغلوبين في حال المواجهة، وستفتح المنطقة للتدخلات الأجنبية، وسيتهلهل النسيج الاجتماعي في البلدين، وما أتمناه أن نظل في دائرة العقلانية.
هل الخيار الأسوأ (خيار الحرب أو المواجهة) محتمل في المستقبل؟
هناك ثلاثة سيناريوهات:
الأول: أن يستمر الوضع الحالي كما هو، من خلال “رشقات” دبلوماسية وإعلامية وتهييج، والمراهنة على الزمن، وهو في اعتقادي خيار غير صائب، وهو الذي ساد لخمسين سنة أو أكثر، ولم يفض لنتيجة، هذا علاوة أن في كلا البلدين ديناميات أو ما يسمى بالحراك قد تتولد عنه تطورات تهدد الاستقرار.. وهذا السيناريو عقيم، وليس في مصلحة أحد.
السيناريو الثاني الأسوأ، وهو المواجهة، والتي لو تقع، لا قدر الله، ستكون كارثية ولن تحسم المشكلة، وستزجّ بالمنطقة في أتون مواجهات وأحقاد، وستفتح الباب للتدخلات الأجنبية، وستؤثر على أمن واستقرار كل دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وبالطبع القيادة في البلدين تعي مخاطر هذا السيناريو.
السيناريو الثالث: وهو الواقعي والذي أتمناه، والذي لم تنضج الأمور لتبنيه، يتمثل في أن الجزائر كنظام موجودة بكيانها وخياراتها، والمغرب موجود بكيانه ومؤسساته وخياراته. ولا شيء يمنع التعامل بين البلدين في إطار الاحترام المتبادل. ليس للمغرب أن يُغيّر من طبيعة الجزائر وخياراتها، وليس للجزائر أن تُغيّر من خيارات المغرب وكيانه وطبيعته، ويمكن أن يلتقيا في العديد من المصالح المشتركة، وما يسمى بالعقلانية الاقتصادية، خاصة أن هذه العقلانية الاقتصادية تنبني على تماثل اجتماعي وثقافي ووحدة الشعبين.
في التاريخ نحن نعرف أنه عندما كانت تحتدم الأزمة بين المغرب والجزائر كانت هناك وساطات. في الستينات مثلاً كانت وساطة مصر أو جمال عبدالناصر، وهي التي أسهمت في تهدئة الأوضاع، وفي فترة السبعينات والثمانينات كانت وساطة السعودية، وأنا أعوّل على الأطراف العربية الوازنة أن تسهم في إخماد الفتيل، وتهدئة التوتر.
وأقول إن الخيار الثالث هو الخيار الأوحد لمصلحة الشعبين، ولمصلحة المنطقة من خلال احترام كل بلد لخيارات ونظام البلد الآخر.
ما هي الأطراف التي تعوّل عليها من أجل إنهاء الأزمة؟
كانت هناك وساطات في السابق من دول عربية كان لها دور في تهدئة الأوضاع بين المغرب والجزائر مثل مصر والسعودية، وأعتقد أن هناك محاولات وإن كانت مستترة من بعض الأطراف، كما أن هناك محاولات من خلال جامعة الدول العربية، وأعتقد أن يكون الحل في إطار العالم العربي؛ ففرنسا غير مخولة أو مؤهلة لهذا الدور وإن دعت لحوار للتهدئة، والجامعة العربية – على علاتها – يمكن أن تقوم بهذا الدور.
ما أبعاد الوساطات أو التحركات المصرية أو السعودية أو العربية بشكل عام التي ألمحت إليها لإنهاء الأزمة؟
لا أستطيع تحديد تلك الأبعاد؛ فكل عمل دبلوماسي تكتنفه السرية. لكن في جميع الأحوال مرحب به، وكل ما يسهم في التقريب بين الشعبين هو إيجابي، ولا يمكن التقليل من أي محاولة مصرية كانت أو سعودية فهي أطراف فاعلة، ويهمها الأمن والاستقرار في منطقة شمال إفريقيا والبحر المتوسط.
بحسب تقديركم، ما فرص تكليل هذه المساعي بالنجاح في نهاية المطاف؟
لا أستطيع أن أتكهن بشيء، لكن أي وساطة لن تكلل بالنجاح إذا رفضها أحد الأطراف، والمغرب مد يد الحوار في أكثر من مناسبة، لكن لا أستطيع أن أتحدث فيما يخص الطرف الجزائري، لأن أي وساطة تقتضي موافقة الطرفين.
لو طُلب منكم صياغة تصور لهذه الوساطة، ما هي البنود المناسبة التي يرتضيها الطرفان؟
كل شخص يريد أن يضطلع بدور الوساطة عليه أن يقرأ الأوضاع بكل أبعادها، ومعرفة أسباب التوتر، والبحث في جوهر المشكلة وليس عن “الأعراض”. هل قضية الصحراء المغربية هي جوهر المشكلة بين البلدين؟، أقول لا؛ فالمشكلة الحقيقية بكل وضوح هي المنظور الجزائري للمغرب، وطبيعة النظام فيه. في كثير من الأحيان يتم التستر على ذلك، والدليل كما ذكرت وجود توتر قبل 1975، تاريخ اندلاع قضية الصحراء.
وقد كُشف مؤخراً عن تصريح للرئيس بومدين للزعيم التونسي بن صالح قال فيه: “لن يكون هناك وحدة مغاربية مع هؤلاء”، مشيراً إلى المغرب. كذلك هناك تصريح الرئيس بومدين في مجلس الشعب أمام قيادات وكوادر جبهة التحرير وهو يلقي فيه باللوم على النظام المغربي، وأخيراً تصريح الرئيس عبدالمجيد تبون مُعرضاً بطبيعة النظام في أسبوعية لوبوان الفرنسية. طبيعة النظام في المغرب هو شأن مغربي، لذا قضية الثقة ينبغي أن تقوم على قبول خيارات الشعب المغربي، وقبول كيانه ومؤسساته؛ فلا نتحدث عن الثقة فقط كمصطلح أخلاقي، وإنما قبول الآخر كما هو بمؤسساته، وكيانه وخياراته.
لكن البعض يرى أن قضية الصحراء هي جوهر الأزمة، وهي التي عطّلت قيام الاتحاد المغاربي، فلماذا فشلت المبادرات الخاصة بالتسوية؟
كما ذكرت في مستهل اللقاء أن قضية الصحراء مجرد “عَرَض”، وكانت هناك مشكلات أخرى قبل ذلك، وتاريخياً لا بد لنا من العودة لفترة مفصلية وهي السبعينات، وكان المغرب يعتقد أن المشكلة يمكن حلها كما حلت مشكلات مشابهة لأرجاء مغربية كانت تحت الاحتلال، مثل المنطقة الشمالية أو طرفاية، أو سيدي إفني؛ لاستكمال الوحدة الترابية، وقدّم المغرب حينئذ مبادرة دبلوماسية للاتحاد الإفريقي (منظمة الوحدة الإفريقية) عام 1972، كما استضاف المغرب قمة ثلاثية في أغادير ضمت الرئيس بومدين، والرئيس الموريتاني مختار ولد دادة في عام 1973، وطرحت خلالها قضية الصحراء، كما طرحت القضية أمام مؤتمر جامعة الدول العربية في الرباط عام 1974، وصرّح الرئيس الجزائري بومدين خلال المؤتمر قائلاً: “إن الجزائر لا مطمع لها في الصحراء”.
وينبغي أن نذكّر بحدث أسهم في تعطيل الثقة بين البلدين عام 1973، وهو تسلل عناصر معارضة من التراب الجزائري من أجل قلب النظام في المغرب، وكانت تتلقى تدريباً في الجزائر، وكانت مرابطة في منطقة تسمى “عين ترك” في ضواحي وهران، هذا الحدث أسهم في تعطيل الثقة التي بنيت بين البلدين خلال هذه الفترة عن طريق تطبيع العلاقات بين البلدين بعد توقيع اتفاقية الحدود وحسن الجوار عام 1972، فكان هذا الحدث مفصلياً. اندلعت قضية الصحراء بعدها، وتم تدويلها، والقصة معروفة.
وبالطبع قد يختلف معي البعض في تأويل الأوضاع ولهم الحرية في ذلك، لكن يشاطرني الكثير من الجزائريين في هذا التحليل، وهي أن قضية الصحراء ليست هي جوهر المشكلة، ولكن صورتها.
أعقب ذلك العديد من المبادرات لحل الأزمة بين البلدين لكن لم تظهر معظمها إلى النور، منها لقاء كان مبرمجاً ما بين الملك الراحل الحسن الثاني والراحل الرئيس بومدين في بروكسل، وكانت مناسبة من أجل طرح كل الأوراق ومن أجل إعادة الثقة، لكن شاءت الأقدار وتوفي بومدين قبل أن تتبلور هذه المصالحة، كما كانت هناك لقاءات سرية في “زرالدة” -إحدى ضواحي مدينة الجزائر العاصمة- بين مسؤولين مغاربة وعناصر من البوليساريو، وكان الإطار حينها هو مقترح الحكم الذاتي، وهو ما قدّمه المغرب حالياً، أيضاً كانت هناك بوادر انفراج عام 1987 بعد لقاء المرحوم الحسن الثاني والمرحوم الرئيس الجزائري شاذلي بن جديد برعاية الملك السعودي الأسبق فهد بن عبدالعزيز، وبدأت “معالم ثقة” وتم التوصل لشيء مهم من أجل حل النزاع، وهو أن تُترك قضية الصحراء جانباً دون أن يمنع ذلك قيام الاتحاد المغاربي، وإقامة علاقات اقتصادية ثقافية وإنسانية بين البلدين، وكان هذا الإطار الأمثل الذي يمكّن لإنضاج الأمور، مع القبول بأن تترك القضية أمام أنظار الأمم المتحدة، وتقام علاقات طبيعية بين البلدين. لكن الأمور لم تمش في هذا الاتجاه.
فهل يستقيم أن نتحدث عن إقامة وحدة مع إغلاق الحدود البرية؟ فالوضع في الحقيقة أصبح “نشازاً” مثل العديد من التناقضات التي لا تخفى على أحد.
مع بداية حكم الملك محمد السادس كانت هناك بوادر حلحلة الأزمة، خاصة بعد لقاء الملك والرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة، لكن سرعان ما عادت العلاقات إلى نقطة الصفر.. لو تحدثنا عن تلك المرحلة وما جرى فيها؟
خلال هذه الفترة كانت هناك بوادر إيجابية، خاصة أن الرئيس بوتفليقة كان يعرف ملابسات قضية الصحراء، إلى جانب إقامته في المنفى لسنوات جعلته ينظر للقضية بمنظور آخر، وكان هناك تعويل على شخص بوتفليقة خاصة أنه بعث برسالة مؤثرة عقب انتخابه مباشرة عام 1999 وجهها للملك الحسن الثاني، وأيضاً حضوره جنازة الملك الحسن الثاني، لكن ما تلا ذلك من أحداث في مقدمتها تسرب أنباء عن تسلل عناصر مسلحة من الجزائر إلى الأراضي المغربية، وهو الأمر الذي نفاه المغرب بصورة رسمية، وكنت حينذاك ناطقاً باسم القصر الملكي، وتم نفي ذلك على عدة مستويات. توظيف هذه الحادثة التي تم تكذيبها فيما بعد من قِبل المسؤولين الجزائريين أنفسهم، والخطاب الذي ألقاه الرئيس السابق بوتفليقة في مدينة بشار لم يفلح في إعادة الثقة، ومنذ ذلك الحين والأمور تراوح مكانها، والمقترح الوحيد الذي قُدّم بعدها هو ما كشف عنه المبعوث الأممي، جيمس بيكر، فيما سمي بالحل الرابع، وهو تقسيم الصحراء، الأمر الذي رفضه المغرب.
وبوجه عام كل المحاولات باءت بالفشل، والمغرب كان يأمل بعد عام 2007 حين قدّم مقترحاً للحكم الذاتي أن يكون هناك تجاوب لكن لم يحدث ذلك. أيضاً كانت هناك العديد من المناسبات التي دعا فيها المغرب للحوار دون شرط أو قيد، لكنه أيضاً لم تلق مبادرته التجاوب، وآخر هذه المناسبات هو الخطاب الملكي نهاية يوليو/تموز الذي لم يجد التجاوب أيضاً.
كيف تعلق على تصريح مندوب المغرب في الأمم المتحدة الذي نادى فيه بـ”حق الشعب القبائلي” في تقرير مصيره؟
من وجهة نظري هو أخطأ في ذلك. ما كان ينبغي له أن يزجّ في القضايا الداخلية لبلد في موضوع حساس. المشكلة معروفة للقاصي والداني، ولها جذور تاريخية منذ ما يُعرف بالأزمة البربرية سنة 1949، لكن هذا موضوع يدخل في دائرة الشأن الداخلي الجزائري، ومهما كان السياق أو الدواعي التي دفعت لذلك، فإن التلويح بمثل هذه الموضوعات يمكن أن يكون مُدمراً في شمال إفريقيا؛ فهذه قضية حساسة، وهناك أطراف خارجية يمكن أن تحرك وتوظف هذه الملفات لأغراضها، وبالتالي فالمندوب المغربي لم يكن موفقاً في تصريحه هذا.
وزارة الخارجية في الجزائر طلبت تفسيراً لما جاء على لسان المندوب المغربي الأممي، وجاء الرد الشافي على لسان الملك شخصياً –وهو أعلى سلطة في المغرب– حين عبّر عن توجهات المغرب، في خطاب بمناسبة وطنية، وهي أن المغرب يحترم مؤسسات الجزائر، وخياراتها، وكياناتها، ولا يسعى لما يشين الجزائر؛ فخطاب الملك لم يدع مجالاً للمضاربة، ولا الزجّ في الأمور الداخلية في الجزائر.
بصفتكم ناطقاً رسمياً سابقاً باسم القصر الملكي وخاصة خلال فترة “العهد الجديد”، كيف يمكن أن تلخص لنا تعامل القصر مع الأزمة الجزائرية بعيداً عما نشاهده في وسائل الإعلام؟
أخلاقياً لا يمكن أن أقول ما ينبغي وما لا ينبغي في التعامل مع الأزمة، هذا غير وارد، وبالطبع هناك قنوات تعبّر عن طبيعة العلاقات بين المغرب والجزائر، وهي وزارة الشؤون الخارجية المغربية، وأظن أنها كانت موفقة حين عبّرت عن أسفها فيما يخص قطع العلاقات بين البلدين، وصرّحت بأن الادعاءات المزعومة واهية وعبثية، وكما يُقال أعمال العقلاء منزهة عن العبث. يمكن أن نزعم أشياء لكن لا بد من الدلائل. فكيف يمكن القول بأن المغرب وراء إشعال الحرائق بمنطقة القبائل؟، هذه مادة تصدر من صحافة معينة، لكن لا يقبل أن تصدر من دولة ومؤسسات محترمة مثل الجزائر.
العاهل المغربي الملك محمد السادس قال مؤخراً إن هناك “جسماً غريباً” مسؤولاً عن توتر العلاقات بين المغرب والجزائر.. فهل كان يشير ضمناً إلى فرنسا أم روسيا؟
لا أستطيع أن أتكهن بما يحيل عليه الملك في خطابه حول “الجسم الغريب”، لكن في ذات الوقت ينبغي أن نستخلص فحوى هذا الخطاب، وهو أن المنطقة كانت مسرحاً لتدخلات أجنبية، سواء خلال الحرب الباردة أو بعدها. وتحليلي هذا يطابق ما سرّبته وثائق ويكيليكس عن تصريح للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة قال فيه بأن “هناك جزءاً من فرنسا لم يقبل بالجزائر الجزائرية أو المستقلة ويحن للجزائر الفرنسية”، وبالتبعية هو ما يدفع أطرافاً في فرنسا إلى المناورة والتدخل.
ويمكن القول إن المنطقة ليست بمأمن من التدخلات الأجنبية، وكانت ساحة للصراع الأيديولوجي، والحكمة تقتضي أن يتحدث المغاربة والجزائريون لبعضهم البعض مباشرة دون حاجة لوساطة أو وصاية؛ فالشعبان المغربي والجزائري هما شعب واحد. ولا بد أن نبرأ من التدخلات الأجنبية، هكذا أفهم تعبير “الجسم الغريب” دون أن أرجم بالغيب طبيعة هذا الكائن.
كيف تقيم الدور الفرنسي إجمالاً في العلاقات بين المغرب والجزائر؟ وهل باريس تغذي هذا التوتر في العلاقات؟
ربما كانت تغذي هذا التوتر لفترة، لكن فرنسا تطورت، نظراً للسياق الدولي، ونظراً لتولي جيل جديد لم يعش الحرب الجزائرية، ولم يكن تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون، حينما كان مرشحاً للانتخابات، من قبيل الصدفة حين قال من الجزائر: “إن الاستعمار جريمة ضد الإنسانية”؛ فهذا تصريح له دلالة قوية؛ فنحن نتحدث عن جيل جديد في فرنسا ليس له ارتباط بتاريخ الاستعمار الفرنسي، كما طالبت فرنسا بإعادة دراسة الذاكرة المشتركة. لكن لا يبدو أن الأمور تطورت إيجابياً في موضع الذاكرة بين البلدين، لكن هذا موضوع آخر. وقد طالبت فرنسا بالحوار والتهدئة بين المغرب والجزائر، وسبق أن قامت بمحاولات لرأب الصدع لم تكلل بالنجاح. ومصلحة فرنسا أن تبرأ المنطقة من التوتر، وأن يسود الوئام بين المغرب والجزائر.
بحكم العلاقات الوطيدة بين المغرب وفرنسا، هل يمكن لفرنسا أن تقوم بوساطة ما من أجل حلحلة الأزمة ورأب الصدع بين البلدين خاصة أن لها تأثيراَ على النظامين المغربي والجزائري؟
صعب؛ بسبب ماضيها الاستعماري. فرنسا دعت في بيان لها الطرفين للحوار، لكن قيامها بدور الوساطة غير وارد؛ فهي لن تُقبل على ذلك، ولن يلقى ذلك قبولاً من المغرب أو من الجزائر. لذا فإن كان هناك دور للوساطة فمن الأفضل أن يكون غير فرنسي. قيامها بذلك سيكون تبريراً ضمنياً للاستعمار.
هل يسعى المغرب للانسلاخ من وصاية فرنسا وتنويع شركائه الدوليين والإقليميين، أم أن هذا الانسلاخ يُعدّ أمراً مستحيلاً؟
هناك علاقات تاريخية بين المغرب وفرنسا منذ الاستقلال، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، لكن المغرب تطور، ومنذ عقد من الزمن سعى لتغيير شركائه الاقتصاديين؛ فهناك انفتاح على كل من الصين، وروسيا، وأمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة؛ فالمغرب ليس حكراً على فرنسا، لذلك هذه الاختيارات والتوجهات من شأنها أن تثير حفيظة الفرنسيين والتخوف على مصالحهم.
الدور المغربي في إفريقيا وحضوره يزاحم بعض الوحدات الاقتصادية الفرنسية. والعالم يتطور ومن واجب المغرب أن يتطور، وفي اعتقادي أن الانفتاح على الدول الأخرى على أهميته لا يمكن أن يكون بديلاً عن الوحدة المغاربية؛ فالإطار الأمثل الذي يمكن أن يكون دعامة وقوة دفع للمنطقة هو الوحدة المغاربية (الجزائر والمغرب وتونس) أو بين بلدان شمال إفريقيا، واستشهد بما قاله الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي: “لا تستطيع تونس أن تحل مشاكلها بمفردها، ولا تستطيع الجزائر أن تحل مشاكلها بمفردها، ولا يستطيع المغرب أن يحل مشاكله بمفرده”، وأرى أن هذا تقييم دقيق وحصيف، ولا بديل عن الوحدة المغاربية.
بالطبع نريد قراءة موضوعية للأحداث، وأن نتحلى بنوع من الأمل، وما ضاق أمر إلا انفرج كما يقال؛ فقد تصل الأمور للتأزم ولكن هذا التأزم قد يكون سبيلاً للحلحلة، وأتمنى أن تعود الحكمة والتبصر، لأن مصير الشعبين واحد، والعالم يعيش تحولات كبيرة، ومصلحة المغرب والجزائر كنظامين وشعبين متداخلة، وأتمنى أن تسود الحكمة بين قيادات البلدين.
على ذكر الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، فقد أطلق المجلس العربي للثورات الديمقراطية برئاسة المرزوقي دعوة لإجراء وساطات شعبية لمحاولة إنهاء الأزمة بين البلدين، كيف ترى دور الوساطة الشعبية أو هذا المجلس في هذا الشأن؟
السيد المرزوقي يعرف الكثير عن القضايا الداخلية للنزاع بين البلدين، وله العديد من التصريحات التي تتسم بالشجاعة والجرأة، مما لم يرق للجزائر، وانتقد ما اعتبره إجراء غير موفق حينما أقبل المغرب على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كما أنه أشاد بخطاب الملك الذي دعا فيه للحوار وبناء الثقة مع الجزائر، لكن لا أعتقد أنه يمكن لمثل هذه الهيئات أن تكون وسيطة. يمكن أن تكون عناصر مؤثرة؛ فللمثقفين دور أساسي، ولا ينبغي للمثقف أن يكون فقط صدى لما يُنشر في الصحافة التي دأبت على التشنيع بالآخر في ظل انعدام الأخلاقيات المهنية والإنسانية، وإنما التحلي بالموضوعية والمهنية. على هذه المبادرات أن تستحضر مصير الشعوب في المنطقة، وإن لم يكن لهذه الهيئات دور في الوساطة فعليها أن تكون ذات تأثير بشكل عام، وقوة اقتراحية.
ما الدور الذي يمكن للمثقفين في المغرب والجزائر القيام به لحلحلة الأزمة أو إنهائها؟
هناك عدة مبادرات من قِبل المثقفين، وكنت أعي محدودية هذه المبادرات، نظراً لتغلب الخطاب الرسمي هنا وهناك، ولم يكتب لهذه المحاولات التأثير في مجرى الأمور، كما لم يُكتب كذلك أن يلتقي المثقفون في المغرب والجزائر خارج البلدين للحوار والحديث. كانت هناك عدة مبادرات وكنت طرفاً فيها، ولم يكن لصوت المثقف “الخافت” أن يغلب على الصوت “الصاخب” للخطابات الرسمية ولأصداء هذا الخطاب من الإعلام الموجّه، وأعتقد أنه آن الأوان ليضطلع المثقفون بدورهم، أولاً من أجل التحذير من المحظور؛ فالمحظور ممكن، وأي مغامرة ستكون مُدمرة، وعليهم أيضاً التذكير بالوشائج، ولا يمكن أن نستهين بما يمكن أن يقدمه المثقفون.
أخيرا.. كيف ترون مستقبل العلاقات المغربية الجزائرية؟
الظرف الراهن يقتضي الحكمة والتبصر، ويقتضي الهدوء، كي نصل للسيناريو الثالث الذي أشرت له آنفاَ، المُتمثل في العقلانية الاقتصادية، من خلال احترام مكونات كل بلد والمتمثلة في وحدته الترابية، وفي نظامه، وخياراته الاستراتيجية، وهذا هو الخيار الأمثل الذي يعوّل عليه الكثير من أصحاب الرأي في المغرب والجزائر. وفي السياسة لا يوجد استباق للزمان، مثل الزراعة لا يمكن للنبتة أن تؤتي ثمارها قبل الأوان، ينبغي أن نزرع، ولكي نزرع ينبغي أن يتسم الخطاب بالحكمة، وعدم لعن المستقبل، كما يقول الجزائريون.
ونحن في مفترق طرق، وأتمنى أن تسود الحكمة في التعاطي مع هذا الملف خدمة لمصلحة الشعبين والبلدين، وأتمنى أن يسهم هذا الحوار الذي أجريه معكم في تغليب السيناريو الثالث.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.