ما زالت الوثائق المسرَّبة بعنوان “أوراق بنما” عنوانًا مركزيًّا في الصَّحافة العالميَّة، والقليل في الصَّحافة العربيَّة. في الغرب، تركّز الاتّهامات على شخصيات ومؤسَّسات تستخدم مناطق شرعيّة في أكثر من منطقة جغرافيّة تسمح قوانينها بالضَّريبة المخفَّفة جدًّا على رؤوس الأموال، وتطال الاتّهامات التَّهرُّب من دفع الضَّرائب الَّذي تعاقب عليه القوانين الغربية في وصفه جناية.
لم يظهر من الأوراق، حتَّى الآن، سوى “رأس جبل الجليد”. بدأت تشير إلى شخصيات عربيّة، منها ما يزال في السُّلطة ومنها من غادرها، من قبيل الرُّؤساء بشار الأسد وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك واميل لحود وزين العابدين بن علي .. إضافة إلى مسؤولين آخرين في مواقع سلطويَّة أو على علاقة معيّنة بهذه الشَّخصيات. إذا كانت الفضائح الغربيّة تخضع للمحاسبة من قبل السُّلطات الَّتي تعاقب على التَّهرُّب من الضَّريبة، فإنَّ الفضائح العربيَّة مضاعفة، فبالإضافة إلى التَّهرُّب من الضَّرائب، هناك الفضيحة المجلجلة حول مصدر الأموال وكيف جرى تجميعها، وما الحدود الشَّرعيَّة منها، وما هو موقع النَّهب والسَّرقة لثروات الشُّعوب العربيَّة؟
قبل خمس سنوات، ولدى اندلاع الانتفاضات العربيَّة، اكتشفت الشُّعوب العربيَّة حجم النَّهب الَّذي مارسته قيادات الأنظمة العربيَّة، وكانت الأرقام مخيفة بحجمها المتجاوز للمليارات من الدُّولارات لدى كلّ زعيم. سلّطت هذه الفضائح الضَّوء على حجم الفساد الَّذي يضرب مراكز السُّلطة، وبات شعار محاربة الفساد واحدًا من الشّعارات الشَّاملة لكلّ الانتفاضات. ميزة “أوراق بنما” اليوم، قد تكون في كشف أهوال جديدة عن حجم السَّرقة لشخصيات سياسيَّة وماليَّة ذات علاقة بالسُّلطة.
لا ينفصل النَّهب الواضح لثروات الشُّعوب العربيَّة عن جملة عوامل بنيويَّة وسياسيَّة تحكَّمت، ولا تزال، بمنطق طبيعة السُّلطة العربيَّة. تعود جذور “أيديولوجيا” السُّلطة العربيَّة إلى زمن استيلاء العسكريتاريا العربيّة على السُّلطة عقب تحقّق الاستقلالات، وتربع سلطات طبقيَّة جديدة على الحكم. بعد زوال أوهام الإصلاحات وبرامج الإنقاذ الَّتي وعدت بها هذه الطَّبقات، بدأت قوى جديدة تحتلُّ السَّاحة أساسها تحالف العسكريتاريا مع سلطة رأس المال في الهيمنة على القطاع العام وتوظيفه في مصلحة القطاع الخاصّ، واستخدمت المواقع السُّلطويَّة لتراكم مالي بوسائل غير مشروعة. إضافة إلى هذا التَّحالف، كانت سياسة الانفتاح الاقتصاديّ أحد العوامل الرَّئيسيَّة في ولادات طبقات طفيليَّة، أفادت من سياسة الانفتاح لمراكمة الرساميل الضَّخمة على حساب القطاع العام. من منَّا لا يتذكَّر كيف نبت كالفطر أصحاب الملايين في زمن أنور السَّادات وحسني مبارك وحافظ الأسد وغيرهم، من دون مقدّمات وخلال فترة زمنيَّة قصيرة.
تزامن هذا التَّحول الاقتصاديّ مع مزيد من الإفقار للشُّعوب العربيَّة من جهة، ومع ترسّخ استبداد سلطات الحكَّام القائم من جهة ثانية وتكوين منظومة سياسيَّة في كلّ بلد تجعل من تغيير الرَّئيس أو استبداله تهديدًا لمنظومة كاملة من أصحاب المواقع المهيمنة في السُّلطة. استتبع ذلك إستعادة لنظريَّة في السُّلطة تعتبر الرَّئيس وحاشيته أنَّ البلاد مملوكة لهم، وأنَّ من حقّهم الإفادة من الثَّروات والمشاريع القائمة، وصولاً إلى اعتبار أنَّ التَّغيير في المواقع الأولى سيتسبَّب بحروب أهليَّة، بعد أن بات النّظام هو الرَّئيس نفسه، وفق منطق الملك لويس الرَّابع عشر :”أنا الدَّولة والدَّولة أنا”. شهدنا ذلك في سوريا ومصر وليبيا واليمن، وسنشهد على هذا المنطق في أكثر من مكان مستقبلاً.
تحمل المجتمعات الغربيّة سيف الرَّقابة الماليّة والدُّستوريَّة على حكَّامها والمسؤولين عن ماليتها، وتخضعهم للمحاسبة، بما فيهم رؤساء الدُّول ونوَّابها ووزرائها، كما يمارس المجتمع المدنيّ هناك دورًا أساسيًّا في المراقبة على إدارة السُّلطات وكيفيّة صرف الموازنات، وهي مسائل يعتبرها المواطن الغربيُّ من حقوقه المقدَّسة بالنَّظر إلى أنَّه دافع الضَّرائب والممول لخزينة الدَّولة. يفتقد العالم العربيّ الحدَّ الأدنى من المحاسبة ومراقبة المال العام، بما يمنع التَّصدي للفساد في جميع وجوهه. أكثر من ذلك، يبدو توجيه تهمّ الفساد إلى مسؤولينا بمثابة جريمة يرتكبها أصحاب الاتّهام أنفسهم، بما يؤدّي إلى معاقبتهم لتطاولهم على مقدَّسات السُّلطة. يشهد على ذلك انعدام محاسبة أي مسؤول أوَّل أو أساسي في أي بلد عربيّ منذ عقود من الزَّمن على سرقات تسبّب بها للمال العام، أو جرت مساءلته عن مصدر أمواله المتراكمة.
يسلّط هذا الفساد الضَّوء على واقع الثَّروات العربيَّة الَّتي يفترض أن توظَّف في تنمية البلدان العربيَّة وتحسين مستوى حياة شعوبها، فإذا بهذه الثَّروات تفاقم معضلات الشُّعوب وتزيدها بؤسا. قد لا يتذكر اليوم أحد أنَّ رؤوس الأموال العربيَّة فقدت خلال الأزمة الماليّة العالميَّة عام 2008 مبلغ 2500 مليار دولار في انهيار البورصات آنذاك (وهو رقم أورده رئيس جمعيّة المصارف اللُّبنانيَّة آنذاك جوزف طربيه). إنَّ ربع هذا المبلغ كان كفيلاً بتحسين مستوى حياة الملايين من السُّكان في العالم العربيّ. يبقى السُّؤال مطروحًا: من أين حصل أصحاب هذه المليارات على أموالهم، وبأي طرق جرى تأمينها؟ وهل يمكن لشعار من أين لك هذا أن يكون له موقع في عالمنا العربيّ؟ حتَّى الآن، الجواب يدعو إلى التَّشاؤم.
تقف المجتمعات العربيَّة اليوم أمام انفجار بناها الدَّاخليَّة وانهيار مؤسَّسات الدَّولة فيها، يترجم هذا الانهيار نفسه بالحروب الأهليَّة والدَّاخليَّة، وتدفع الشُّعوب العربيَّة أثمانا باهظة من هذه الحروب، قتلاً لأبنائها وتدميرًا لثرواتها وبناها التَّحتيَّة، فإنَّ قضية الفساد المطروحة اليوم عبر “أوراق بنما”، إنَّما تضاف إلى المسلسل الطَّويل من الفساد السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والإعلاميّ .. الَّذي “تنعم” به هذه المجتمعات، في ظلّ أنظمة الاستبداد المهيمنة على هذه الشُّعوب. لا تقلّ معركة كشف هذا الفساد وتسليط الضَّوء على إبطاله والتَّصدي له أهميّة عن سائر البرامج الإصلاحيَّة الَّتي تتوق الشُّعوب العربيَّة إلى تحقيقها. إذا كانت قضية الدّيمقراطيَّة وحقوق المواطن وتوظيف الثَّروات العربيَّة في خدمة شعوبنا، تعتبر قضايا أساسيَّة، فإنَّ التَّصدي للفساد في أشكاله المتنوّعة يعدُّ قضيَّة مركزيَّة في هذا المجال.
التعليقات مغلقة.