أنثروبولوجيات الحجر (1): تاريخ الخوف
نروم عبر هذه الفقرات المقتضبة جدا، أن نتقاسم مع القراء الأعزاء، بعضا من الأفكار في هذا الإبان الصعب، المتسم بالحجر الصحي والمنزلي طوعا واجبارا. ونبتغي طبعا، كسر روتين اليومي بالمعرفة والفكرة، لتعم الفائدة والاستفادة. وبما أنها فسحة، فإنه سنختار الاقتصار والاكتفاء بذكر بعض أسماء المؤلفات والكتب، لتكون فرصة التعمق سانحة أمام القارئ، بكل حرية وتصرف.
يقول المؤرخ “إيرك هوبزباوم”: “يوجد فرق كبير بين السؤال الذي يطرحه الباحث التقليدي عن الماضي، فيقول: ما الذي حدث في التاريخ؟ ومتى ولماذا؟ وبين السؤال الذي ألهم مجموعة كبيرة من الأبحاث التاريخية في العقود الأخيرة، وهو بالتحديد سؤال : كيف شعر الناس أو يشعرون بشأن ما حدث في التاريخ؟”.
اقتبسنا مقولة “هوبزباوم” ضمن دراسة عنونَها ب “القلق على المستقبل”، وهي إشارة منه؛ على أن المؤرخ لا يهتم بدراسة الماضي فقط، وإنما وهو يقوم بذلك، فإنه يبقى دائما منهجسا ومشدودا نحو المستقبل. ومقولة “هوبزبام” هاته، تحيلنا على جوانب معرفية بحثية جديدة اتجه صوبها ثلة من المؤرخين في العالم، وهي مواضيع ذات الصلة بتاريخ الانفعالات والأحاسيس، وردود الأفعال وأنواع السلوك، التي تنتشر داخل المجتمعات البشرية في سياقات معينة.
وكمثال على تلك الأحاسيس والانفعالات، نختار تاريخ الخوف، وهو موضوع معقد ومتشابك، يصعب البحث فيه تاريخيا وانثروبولوجيا، لأنه يتعلق بدراسة تاريخ الذهنيات والاحاسيس الداخلية الدفينة جراء حوادث ووقائع كثيرة، مثل الكوارث والأوبئة والحروب والموت والمجاعات والأهوال الكثيرة. وهذا البحث والتنقيب لسبر أغوار وحيثيات ردود الفعل الانساني في مرحلة معينة، ودورها في صناعة التاريخ، ليس سهلا، ولكنه يبقى ورشا بحثيا مغريا وذي حماسة كبيرة.
ومن بين أول الدراسات التي انتبهت إلى هذا الموضوع هي دراسة المؤرخ “جورج لوفيفر” التي نشرها سنة 1932، الموسومة بعنوان: “الخوف الكبير عام 1789” وهي دراسة قيمة خصصها للثورة الفرنسية التي عمت فيها فوضى كبيرة، وتفشت خلالها كل أشكال النهب والقتل والاغتصاب، ومات جرائها عددا هائلا من المواطنين، وخلقت في ذهنية الفرنسيين والأوربيين عموما، صدمات كبيرة كما خلفت جروحا نفسية غائرة، من شدة الخوف والهلع. وعبر هذه الدراسة، اشتهر “لوفيفر” بسؤال منهجي، كان حافزا لظهور دراسات أخرى تشتغل على الخوف كتيمة، والسؤال هو: هل كان من المفيد إعادة قراءة التاريخ انطلاقا من الحاجة إلى الأمان؟ وفي نفس السياق، انبثقت دراسات أخرى، أهمها مقالة مهمة للمؤرخ الفرنسي المشهور، مؤسس مدرسة الحوليات “لوسيان فيفر” بعنوان Pour l’histoire d’un sentiment: le besoin de sécurité. والمنشورة في مجلة الحوليات سنة 1956.
لكن يبقى أهم عمل صدر حول تاريخ الخوف، هو الكتاب القيم والمرجعي للمؤرخ الفرنسي “جون دوليمو” بعنوان “تاريخ الخوف بأروبا الغربية من القرن 14 إلى القرن 18م” الصادر سنة 1978، وجون دوليمو هو مؤرخ وأنثروبولوجي متخصص في تاريخ الذهنيات الدينية في أوروبا، له مؤلفات كثيرة منها كتاب حول “تاريخ الجنة”. ويعتبر كتابه حول الخوف، دراسة رائدة ومرجعية بذل فيها مجهود معرفي عظيم، بالاستناد على مناهج وتخصصات علمية متعددة، يحلل فيه تطور تاريخ أوروبا في مرحلة انتقالية من نهاية عصر الوسيط إلى عصر النهضة ثم الأنوار، ويصفه أوروبا بأنها كانت حضارة غير مستريحة، تتطور على ايقاع مشهد يهيمن عليه الخوف، وكوابيس كثيرة والتوجس من مخاطر ومخاوف من أهوال يوم القيامة. وذلك بسبب توالي فترات وموجات متتالية من الاضطرابات والحروب والأوبئة منذ الطاعون الأسود في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، إلى منتصف القرن السابع عشر، حوالي سنة 1660 وهي الفترة المعروفة في الاسطوغرافية التاريخية الأوربية ب”منتصف الألفية”، حيث تراكمت خلالها على أوربا قلاقل متعددة وحروب بينية كالحرب التي دامت 100 سنة بين فرنسا وبريطانيا، كل هذه الاضطرابات والحروب تسببت في انتشار الخوف في جميع البلدان الأوربية. وهذه المخاوف كانت لها انعكاسات كثيرة أهمها النزوع نحول العقل وبداية التخلص من فكر اللاهوت، ويرى “دوليمو” أن انتشار وباء الطاعون وتأقلم الناس مع الموت ولد عند المفكرين والمثقفين نزوعات عقلانية خاصة في إيطاليا، حيث ظهرت بوادر النهضة.
وفي التجربة البريطانية، تجدر الإشارة إلى كتاب مهم للغاية، ألفه المؤرخ البريطاني “ريتشارد أوفري” حول “العصر المريض” The Morbid Age : Britain and the Crisis of Civilisation 1919-1939. وهي دراسة نشرت سنة 2009، خصصها لدراسة انفعالات المجتمع البريطاني واحساسه بالأزمة والخوف، في فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث يفكك كتاب “العصر المريض” حسب “هوبزباوبم” الخيوط المعقدة لمختلف التوقعات الكارثية، مثل موت الرأسمالية، والخوف من التدهور السكاني وفساده، والخوف من الحروب، وانتشار خيبة أمل اجتماعية.
أما الباحث الأمريكي “كوري روبين” في كتابه الصادر سنة 2006 الموسوم بعنوان “الخوف: تاريخ فكرة سياسية”، فإنه خلص إلى أن الخوف أصبح في المجتمعات الحالية ركيزة أساسية لتدعيم السلطة وتبريرها، ووسيلة للحكم، حتى في أعتد الدول الديموقراطية. وهو يرصد الخوف كنظرية سياسية تقوم الولايات المتحدة بتوظيفه لبسط تفوقها على المستوى العالمي، وإعادة التحكم في التوازنات السياسة والاقتصادية وفقا لمصالحها. ولذلك يرى روبين أن الحاجة إلى خلق الخوف وانتاجه ستستمر في العالم. بشتى الأساليب والأشكال.
هكذا، نرى أن الخوف بالرغم من اعتباره شعور انساني وغريزة طبيعية، ساهم بشكل كبير في صناعة التاريخ العالمي، ويظهر أن تاريخ البشر ما هو إلا يوميات مجتمع يعيش على وقع الخوف بكل أشكاله، الخوف من المرض، من فقدان العمل، من الموت، من الكوارث، ومن الوباء، وعادة ما تساهم انفعالات البشر وردود أفعاله نتيجة الخوف والصدمة من كوارث وأوبئة ذات الوقع العالمي الكبير، في خلق تحولات بنيوية وتفرز أنظمة جديدة وبديلة.
19 مارس 2020.
عبدالله بوشطارت.
التعليقات مغلقة.