مفهوم الهوية الجماعية وتطبيقاته على حالة المغرب (2/2)*

محمد بودهان

(2/2)  

لماذا نرفض أن يكون المغرب غير عربي:

النتيجة إذن أن الهوية الجماعية للمغرب هي شمال إفريقية، أي أمازيغية، بموطنها ولغتيها. وهو ما يعني أنها ليست فينيقية ولا رومانية ولا بيزنطية ولا إسبانية ولا فرنسية… الجميع متفق على هذه الخلاصة الأخيرة. لكن عندما نقول بأنها ليست عربية، الكثير من المغاربة يغضبون ويرفضون هذه النتيجة. مع أن نفس الاستدلال الذي يثبت أن هوية المغرب ليست فينيقية ولا رومانية ولا فرنسية…، يثبت في نفس الوقت أنها ليست عربية. لماذا إذن رفض القول إن المغرب ليس ذا هوية عربية؟

لأن فكرة الهوية العربية للمغرب، لكثرة تكرارها وسماعها وتعلّمها وقراءتها وكتابتها ونشرها وتعميمها وفرضها…، اكتسبت شرط بديهية لا تُناقش ككل البديهيات. لكن لو فقط نتساءل متى وكيف نشأت هذه البديهية وفرضت نفسها، سندرك بسهولة أنها لم تتشكّل إلا في القرن العشرين، بعد 1912 بالتدقيق. أما قبل هذا التاريخ، فبضع عشرات الآلاف من المهاجرين العرب الذين يُفترض ـ نعم يُفترض فقط ـ أنهم استقروا بأرض الأمازيغ، لم يكن بمستطاعهم، لا واقعيا ولا منطقيا، تحويل الهوية الجماعية الأمازيغية لكل شمال إفريقيا إلى هوية جماعية عربية. بل العكس هو الصحيح، أي أن حفدة هؤلاء المهاجرين هم الذين يكونون قد ذابوا في الهوية الأمازيغية، متبنّين لها كهويتهم الوحيدة، لا تمييز بينهم وبين الأمازيغيين الأصليين. هذه هي القاعدة العامة بخصوص هوية سليلي المهاجرين الذي يستقرون بصفة دائمة ونهائية بالبلد الجديد الذي هاجروا إليه. فكرة “مغرب عربي” هي إذن فكرة حديثة جدا، مرتبطة بالتعريب الهوياتي الذي لم يبدأ في المغرب إلا مع الحماية الفرنسية.

التعريب والهوية في المغرب:

في ما يتعلق بهذا التعريب، يجدر التأكيد أن المغرب، على الخصوص، عرف ثلاث مراحل من التعريب: الأولى أمازيغية، والثانية فرنسية، والثالثة وطنية.

1ـ المرحلة الأولى، التي تبتدئ منذ اعتناق الأمازيغ للإسلام إلى 1912، كانت أمازيغية لأن الأمازيغيين هم أنفسهم الذين اختاروا التعريب ومارسوه في سبيل تحوّلهم إلى عرب، معتمدين على ثلاث “حيل” للإقناع والاقتناع أنهم عرب ولم يبقوا أمازيغيين:

أ ـ انتحال النسب العربي بادعاء الانحدار من أصل عرقي عربي، مثل العرب الحقيقيين، وهو ما يفسّر الانتشار الواسع لثقافة “أشجار النسب العربي” بالمغرب، مع هوس خاص بخرافة “النسب الشريف”، ذات الخلفيات العنصرية.

ب ـ التحدّث بالعربية كما يفعل العرب الحقيقيون، وهو ما أدّى إلى ظهور الدارجة، حسب ما سبق شرحه.

لكن هذا التعريب الذاتي بقي محدودا في إطار فردي وعرقي وقبلي دون أن يكون له أي أثر على الهوية الجماعية التي ظلت شمال إفريقية وأمازيغية. وهذا ما يفسّر أن المغرب لم يسبق أن اعتبِر أو اعترِف به كبلد عربي قبل 1912. ومعروف أن عبارة “المغرب العربي” لم تظهر ولم تستعمل إلا في أواخر أربعينيات القرن الماضي.

ج ــ إطلاق الأسماء الشخصية العربية على المواليد الأمازيغيين، والتخلي عن الأسماء الأمازيغية الأصيلة، تعبيرا عن الرغبة القوية لدى مجموعة من الأمازيغيين في ممارسة التحول الجنسي والهوياتي (تقمصهم للجنس العربي والهوية العربية، وتنصلهم من جنسهم الأمازيغي وهويتهم الأمازيغية)، وانتحال الانتماء العربي. فهذا الأمازيغي الذي يسمي ولده باسم عربي، يعطي بذلك الدليل على أنه يتمنى رمزيا لهذا الولد أن يكون مثل الحامل الأصلي لهذا الاسم، أي يتمنى له أن يكون عربيا.

2 ـ المرحلة الثانية للتعريب، التي دامت من 1912 إلى 1956، هي فرنسية لأنها من فعل الاستعمار الفرنسي الذي خطّط لهذا التعريب وأشرف عليه وأنجزه. وهو تعريب سياسي لأن هدفه كان هو تعريب السلطة السياسية والدولة التي تمارسها بإعطائها هوية وانتماء عربيين. وحتى تنجح السلطات الاستعمارية في هذا التعريب السياسي للدولة وسلطتها السياسية، قامت عمليا بخلق دولة عربية بالمغرب، مع توفير كل الشروط السياسية والمؤسساتية والقانونية والرمزية (العلم والنشيد الوطنيان)، الضرورية لهذه الدولة العربية، ذات الصنع الفرنسي.

الملاحظ أن هذا التعريب، الذي باشرته السلطات الاستعمارية، فلأنه سياسي يستهدف الدولة وسلطتها السياسية بجعلها دولة عربية، فهو يمثّل أول تعريب حقيقي عرفه المغرب طيلة تاريخه.

3 ـ المرحلة الثالثة للتعريب، التي بدأت من استقلال المغرب في 1956 ولا تزال متواصلة، هي تعريب وطني، تقوده الدولة المغربية نفسها، متمّمة عملية التعريب الموروثة عن فرنسا، لكن بشكل كلي وشامل، مسخّرة لذلك كل الموارد المتوفرة، وخصوصا التعليم الذي تحوّلت فيه المدرسة إلى معمل لاستنبات العروبة واقتلاع الأمازيغية. وهو ما أنتج مخيالا جماعيا وثقافيا يُتصوّر فيه المغرب كمجرد امتداد للمشرق العربي، والأمازيغية كمجرد مؤامرة استعمارية جاء بها “الظهير البربري”، تلك الأكذوبة التي اختلقتها “الحركة الوطنية” اختلاقا.

ما حققته سياسة التعريب إذن، ليس هو ترقية العربية إزاء هيمنة الفرنسية، حسب الدعوى التي لا يملّ التعريبيون من تكرارها، وإنما هو إقصاء الهوية الحقيقية والأصلية للمغرب، وهي الأمازيغية، مع فرض ونشر العهر الجنسي، المتجلّي في تحويل جنسي ـ من الجنس الأمازيغي إلى الجنس العربي ـ وهوياتي للمغاربة. وهو ما تُرجم بعداء المتحوّلين المغاربة ـ وضمنهم العديد من الناطقين بالأمازيغية ـ لذاتهم، أي لأمازيغيتهم، ممارسين على أنفسهم مازوشية هوياتية وثقافية يشعرون معها باللذة والسعادة وهم يحتقرون هويتهم وانتماءهم، منتحلين انتماء إلى هوية أجنبية لا يعترف أصحابها الحقيقيون بانتماء المغاربة المتحوّلين إليها. ولهذا يستصغر العرب الحقيقيون هؤلاء المتحوّلين بسبب تنكّرهم لأصلهم وهويتهم. ومع ذلك فهم متمادون في التباهي الزائف بهذا الانتماء الزائف، الذي يعطيهم شعورا زائفا بسعادة زائفة فقط لأنهم يتصوّرون أنهم عرب وليسوا أمازيغيين، مع أن العرب الحقيقيين لا يعترفون ـ كما قلت ـ بعروبتهم الزائفة. إنه سلوك مازوشي، لدى المتحوّلين، يكاد يكون فريدا في التاريخ. هذا هو النجاح الوحيد الذي حققته سياسة التحويل الجنسي، التي تسمّى رسميا بسياسة التعريب.

الهوية في الدستور المغربي:

يجب الاعتراف أن الدولة قامت، منذ 2001، بمجهود مشكور في سبيل الاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب، ووضع حد لإنكارها وإقصائها. وقد تُوّج هذا المجهود بترسيم الأمازيغية هوية ولغة في دستور فاتح يوليوز 2011. لكن، بدل أن يصحّح هذا الدستور الجديد الوضع الهوياتي الشاذ للمغرب، المتجلِّي في عدم التطابق بين الهوية الأمازيغية لأرض المغرب وبين هوية الدولة التي تسود على هذه الأرض، رسّم وكرّس التصوّر العامّي للهوية عندما اعتبرها متعددة ذات مكونات وروافد متنوعة. وهكذا نقرأ في التصدير: «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية». إنه فهم ميكانيكي للهوية بتصورها كإضافات عددية توضع جنبا إلى جنب، وبشكل اعتباطي ولا منطقي.

فلماذا توقفت هذه المكونات عند ما هو عربي وأمازيغي وصحراوي، ولم تشمل ما هو فاسي وريفي وجبْلي ومراكشي وفيكيكي ويزناسني وسوسي…، ما دام أن المعيار العرقي أو الجهوي، الذي على أساسه اختيرت المكونات الثلاثة الأولى، حاضر كذلك في هذه المكونات الأخرى؟ ثم لماذا اقتصرت “الروافد” على ما هو إفريقي وأندلسي وعبري ومتوسطي ولم تتضمن كذلك ما هو فينيقي وروماني ووندالي وإسباني وأوروبي… ما دام أن نفس المعيار الحاضر في “الروافد” الأولى متوفر كذلك في الثانية؟ فليس هناك إذن أي مبرر منطقي ولا واقعي يحصر “المكونات” و”الروافد” في هذا العدد بالضبط أو عدد آخر بالضبط، ولا في هذه العناصر من “المكونات” و”الروافد” دون عناصر أخرى. مما يبيّن أن التصنيف اعتباطي ومزاجي لا غير، كما قلت، ككل التصورات العامّية غير العلمية. مع أن الأمر يتعلق بدستور يحرره فقهاء القانون، مما يستوجب أن تكون ألفاظه دقيقه ومفاهيمه محددة ومصطلحاته علمية ومضبوطة.

إذا كانت “المكوّنات” تعني العناصر الداخلية، و”الروافد” تعني العناصر الخارجية، فكيف يصح الحديث عن “روافد” إفريقية لهوية المغرب مع أن هذا المغرب جزء من هذه القارة الإفريقية نفسها؟ فاستعمال عبارة “روافد إفريقية” سيكون سليما وملائما لو أن المغرب ينتمي إلى قارة أخرى خارج إفريقيا، التي جاءت منها “روافد” خارجية تغني هوية المغرب غير الإفريقية. ففي فرنسا مثلا، التي لا تنتمي إلى إفريقيا، يصح الحديث عن “روافد إفريقية” لأنها بالفعل روافد خارجية، وليس بالنسبة للمغرب الذي هو جزء من إفريقيا ومنتمٍ إليها. كما أنه لو كان هناك تحديد جغرافي وقُطري لهذه “الروافد الإفريقية”، كوصفها بالسينيغالية أو المالية أو النيجيرية، أو الطانزانية…، لكان الأمر، على مستوى الاستعمال السليم لمفهوم “الروافد”، مقبولا ومعقولا. فما دام أن المغرب جزء من إفريقيا، فإن القول بأن “روافد إفريقية” تغني هوية المغرب، كما جاء في الدستور، يساوي القولَ بأن “روافد مغربية” تغني الهوية المغربية. وهذا خُلْف، ودوران، وكلام متناقض ومتضارب، إذ كيف يمكن تصور عناصر مغربية داخلية كمجرد “روافد” خارجية في نفس الوقت؟ اعتبار المكونات الإفريقية الداخلية للهوية المغربية مجرد “روافد”، بمعناها الذي يفيد أنها خارجية، يعبّر لاشعوريا عن قناعة أن المغرب، بما أنه بلد “عربي”، فهو لا ينتمي إلى إفريقيا لأن البلدان العربية ليست جزءا من إفريقيا. فكل ما يمكن أن تعنيه هذه القارة الإفريقية بالنسبة للمغرب، هو نفس ما تعنيه للبلدان العربية، أي قارة “أجنبية” لا تجمعها مع هذه البلدان العربية ـ والمغرب واحد منها على هذا المستوى من الوعي الهوياتي الزائف ـ سوى “روافد” خارجية مصدرها إفريقيا البعيدة والأجنبية. ولهذا نجد أن الدستور السابق، دستور 1992 المعدل في 1996، كان متقدما على الدستور الحالي (دستور 2011) في ما يخص العلاقة الهوياتية بإفريقيا، إذ نجد أن الأول ينص صراحة على ما يلي: «وبصفتها (يعني المملكة المغربية)، دولة إفريقية فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية». واضح أن هذا الدستور يعترف أن المغرب دولة إفريقية، وهو ما يعني أن انتماءه إفريقي، عكس الدستور الجديد الذي يجعل من إفريقيا “رافدا” فقط، أي شيئا أجنبيا وخارجيا.

اللافت كذلك أن ترتيب المكونات الهوياتية المزعومة (العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية) مخالف للواقع التاريخي الذي يشهد ويثبت أن الأمازيغية هي الأسبق وهي الأصل. والملاحظ أيضا أن المكوّن “العربي ـ الإسلامي” استعمل كمصطلح واحد مركب من لفظين تجمع بينهما واصلة، دليلا أن اللفظين يشكلان مفهوما واحدا. وهذا الجمع بين ما هو عربي وما هو إسلامي بشكل يجعل منهما شيئا واحدا، هو كذلك من التصورات العامّية والشعبية الخاطئة المنتشرة حول العلاقة بين العروبة والإسلام. وكتابة ذلك في نص دستوري فيه نصب وتضليل لأنه قد يحمل على الاعتقاد أن الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى الإسلام. وهو ما يعني أن التمسك بالعروبة هو تمسك بالإسلام. وهذا خلط خطير غير مقبول، فيه احتيال وخداع عندما يجعل العروبة مرادفا للإسلام. مما يعطي لها، باعتبار أنها جزء من الإسلام، امتيازا على باقي “المكونات” الهوياتية الأخرى. والأخطر أكثر أنه يدفع إلى الاعتقاد أن هوية المغاربة لا يمكن أن تكون أمازيغية ـ إسلامية إذ لا بد من العنصر العربي، مقرونا بالإسلام، حتى “يحسن” و”يقبل” إسلامهم.

هكذا يكون الدستور الجديد قد تعامل مع موضوع الهوية تعاملا “سفسطائيا”: فبقدر ما يثبت هذا الدستور الهوية المغربية كهوية غنية جدا بتعدد “مكوناتها” و”روافدها”، فهو ينفيها كانتماء يميّز المغرب والمغاربة عن غيرهم من الشعوب الأخرى، وهو التميز الهوياتي الذي يستمدونه من موطنهم الأمازيغي بشمال إفريقيا، كما هو الأمر بالنسبة لهويات كل الشعوب والبلدان، كما سبق تبيان ذلك. فما تنفيه إذن الوثيقة الدستورية هو هذا الانتماء الأمازيغي الترابي للمغرب والمغاربة، واستبداله بخليط اعتباطي من الأعراق و”المكونات” و”الروافد” التي لا علاقة لها إطلاقا بمفهوم الهوية الذي يتحدد بالأرض أولا ثم باللغة ثانيا، كما عند كل شعوب المعمور. فإذا كانت الهوية تعني التحديد (S’identifier, c’est se déterminer)، فإن الدستور الجديد جعل منها شيئا فضفاضا وغير محدد، وذلك عندما اعتبرها خليطا هجينا من المكونات والروافد. وإذا لم يكن من الممكن أن ينص الدستور صراحة على أن المغرب بلد أمازيغي في هويته وانتمائه، بسبب ما تثيره كلمة “أمازيغية” من حساسية وسجال وجدل، فقد كان بإمكانه التنصيص، ودون أي ذكر للفظ “أمازيغية”، على «أن المغرب بلد يستمد هويته وانتماءه من موطنه بشمال إفريقيا». وهو تعبير موضوعي وجغرافي محايد يعبّر عن الانتماء الترابي، ولا يحيل على أي انتماء عرقي.

ولهذا فإن الدستور الجديد، رغم ما أقرّه من مكاسب رمزية هامة لصالح اللغة والهوية الأمازيغيتين، إلا أنه لم يحلّ المشكل الهوياتي بالمغرب، ولم يؤسس لمصالحة حقيقية مع الهوية الأمازيغية للمغرب. فما هي شروط هذه المصالحة؟

المصالحة الحقيقية مع الأمازيغية:

المعروف أنه من أجل إيجاد حل ناجع لمشكل ما، ينبغي أولا تشخيصه وتحديده. ما هو المشكل الحقيقي للأمازيغية في المغرب؟

مشكل الأمازيغية لا يكمن في إقصائها اللغوي والثقافي، الذي عانت منه لأزيد من نصف قرن، لأن هذا الإقصاء ليس إلا مظهرا للإقصاء الأول والرئيسي الذي هو الإقصاء السياسي، الذي يجد مصدره في كون السلطة السياسية في المغرب تُمارس، لأنها تُعتبر سلطة عربية، ليس من طرف العرب، ولكن باسم الانتماء العربي. وهو ما ينتج عنه أن الأمازيغية ـ وليس الأمازيغيون بصفتهم أشخاصا طبيعيين ـ مقصاة سياسيا. القضية الأمازيغية هي إذن سياسية في عمقها وجوهرها، قبل أن تكون لغوية وثقافية. ولهذا فإن كل ما قامت به الدولة لصالح الأمازيغية منذ 2001، انصب على معالجة الأعراض فقط، المرتبطة باللغة والثقافة، دون الاقتراب من جوهر المشكل الذي هو سياسي. هذا ما يفسّر أن المصالحة المزعومة مع الأمازيغية، مع كل القرارات المتخذة بهذا الشأن، لم تخرج عن كونها “سياسة بربرية” جديدة، على غرار “السياسة البربرية” القديمة التي مارستها سلطات الحماية الفرنسية. هذه “السياسة البربرية” الجديدة تتلخص في التعامل مع الأمازيغ كأقلية تطالب من الدولة “العربية” حيث يعيشون، أن تعترف بحقوقهم الإثنية واللغوية والثقافية. وهو ما حدا بهذه الدولة إلى تبنّي وتطبيق هذه “السياسة البربرية” الجديدة، التي تراها الحل المناسب لطبيعة مشكل الأمازيغية، كلغة وهوية وثقافة “أقلية”. ورغم أن هذه “السياسة البربرية” الجديدة مفيدة للغة والثقافة الأمازيغيتين، إلا أنها حل زائف ومصالحة زائفة مع الأمازيغية، لأنه لا توجد بالمغرب “أقلية” ولا “أغلبية” أمازيغية، لكون المغرب، في مجموعه، أمازيغيا في هويته الجماعية، التي يحددها انتماؤه الشمال الإفريقي، والتي لا علاقة لها بالأصول العرقية لسكانه، التي قد تكون متنوعة ومتعددة.

ولهذا فإن المصالحة الحقيقية مع الأمازيغية، والحل الحقيقي للمشكل الهوياتي بالمغرب، يتطلبان تبنّي وتطبيق، ليس “سياسة بربرية”، كما هو الأمر حاليا، وإنما سياسة أمازيغية. والفرق بين الاثنين ليس تورية وتلاعبا في الكلمات، وإنما هو تعبير عن القطيعة مع تدبير ذي طابع “أجنبي” للقضية الأمازيغية، يعبّر عنه لفظ “بربري” ذو الأصل الأجنبي، واعتماد تدبير وطني يعبّر عنه استعمال لفظ “أمازيغي” ذي الأصل المحلي. هذا الانتقال من “سياسة بربرية” إلى سياسة أمازيغية يقتضي من الدولة، هي نفسها أولا، الاعتراف بهويتها الأمازيغية انسجاما مع هوية موطنها بشمال إفريقيا، حيث ستنتقل الأمازيغية من وضع موضوع Objet، سلبي ومنفعل، إلى وضع ذات Sujet فاعلة وسيّدة، ومصدر للقرارات التي تخصها.

المصالحة الحقيقية مع الأمازيغية تشترط إذن أن تُمارس السلطة السياسية، ليس من طرف أشخاص أمازيغيين، بل باسم الانتماء الأمازيغي باعتباره انتماء للدولة المغربية ولسلطتها السياسية. وهو ما سيكون حلا نهائيا للمشكل الهوياتي في المغرب، الناتج عن الانشطار بين الهوية المعلنة للدولة وانتمائها الجغرافي.

هذه العودة للدولة إلى هويتها الامازيغية الشمال إفريقية ستكون شرطا لاسترداد المغاربة لما فقدوه من أصالة وسيادة وكرامة هوياتية، عندما تنازلوا عن هويتهم الأمازيغية وكفّوا أن يكونوا ما هم عليه، وتحولوا من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، بانتحالهم هوية بالتبنّي، معلنين بذلك أنهم غير شرعيين هوياتيا، مثل الأطفال مجهولي الوالدين، جاعلين من أنفسهم “البدون” الهوياتيين لأن الذين يعتقدون أنهم يتقاسمون هويتهم العربية لا يعترفون بهم كعرب مثلهم.

لكل هذا فإن استعادة الهوية الأمازيغية للمغرب، كجزء من الهوية الأمازيغية الجماعية لشمال إفريقيا، هي استعادة، كذلك، للحقيقة المتمثلة في أن نكون مطابقين لما نحن عليه، في توافق مع خصوصيتنا التي هي الأمازيغية، التي تميزنا عن كل شعوب الأرض. وهذا ما سيضع حدا للزيف وانتحال الصفة، وللتزوير واستعماله اللذيْن كنا ضحاياهما ومقترفيهما في نفس الوقت. هذه هي المصالحة الحقيقية مع الأمازيغية، والتي هي في نفس الوقت مصالحة مع الحقيقة.

*هذا الموضوع هو في الأصل مداخلة شارك بها الكاتب في ندوة “حوار الثقافات وأسئلة الهوية”، التي نظّمها “مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم” بمكناس، يومي 26 و27 يناير 2018، بمناسبة الاحتفاء بالسنة الأمازيغية 2968.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد