كلمة الرفيق محمد حبيب طالب في الوداع الأخير للرفيق “حسن صوابني”

أيها العزيز والرفيق حسن صوابني،
ها نحن نودع بعضنا البعض وبوثيرة تسارعت ولن تنقطع. كم هي الحياة قصيرة وعابرة، أيها الرفيق! وكم هو الفراق قاس وعبثي! ولولا تلك القيم الجميلة التي تماهيت معها، وتشاركناها طيلة عقود، لما كان للوجود قيمة ومعنىً، ولما تعالينا على أسراره العبثية الجوفاء. وحدها تلك القيم التي آمنت بها، وسكنت وجودنا جميعا، أضفت على هذا الوجود مثالية الدوام والاستمرارية المجدية والمطمئنة والمقنعة. وكنت خير مثال لها…
في معايشتي لأجيال المناضلين، صاحبت العشرات ممن كانت تحدوهم في نضالهم والتزامهم المثل العليا الأصلية والأصيلة في محبة الخير والجمال والحق. ولربما أكثر مما كان انشغالهم بالخلافات الأيديولوجية التي مرت بها الحركة اليسارية، ما دامت مجرد تقنيات فائضة عن الحاجات النضالية والأخلاقية الأساس. وليس صدفة، أن معظم هؤلاء برزت لديهم ميولات دفينة فنية أو أدبية، كانت مشاق النضال السياسي تكبتها أو تواريها إلى حد ما.
وأحسب أن رفيقنا الراحل، المسرحي في السابق والزجال في بقية عمره، كان من هذا الطراز المشدود بحبل السرة إلى تلك المرجعية الأم الجامعة لكل خيارات التقدم، في محبة الخير والجمال والحق. فكان من هؤلاء المناضلين الذين يمارسون السياسة أخلاقا وصدقا مع الذات ومع الآخرين. لست أغالي في أن هؤلاء المناضلين الأخلاقيين، إن جاز هذا التوصيف الحصري، كانوا الأقرب إلى الوجدان الشعبي ولصفائه الثوري، والأشد ثباتا وتمسكا بالمبادئ الأصلية التي جمعتنا، ولا سيما في هذا الزمن الدوار والملتبس الاصطفافات والاختيارات. وقد سرني كثيرا أن الأسرة الكريمة وأصدقاءه قد باشروا في جمع وإصدار ما تركه لنا من قصائد تنضح بما فاض به وجدانه في هذا المعنى.
من المؤلم أن نتحدث عن رفيقنا ب”الفعل الماضي الناقص” كان، لكن عزاءنا في ذلك، أنكم تجعلون لذاك الفعل الناقص خبرا مفيدا للحاضر والمستقبل. فأعز ما كان يريده رفيقنا هو استمرارية القيم التي آمن بها وضحى من أجلها، ورغب في رؤية الوجود أهلا لها وعلى كيفها.
وأول ما تبادر إلى ذهني في هذه الشهادة، أني، عندما كان الرفيق يحدثني بحماس عن أنشطته ومتاعبه في ما كان يتحمله من مسؤولية مركزية في المؤسسة الوطنية للتبرع بالدم، كنت أسائل نفسي، لماذا يا ترى اختار الرفيق هذا النوع بالذات من أنشطة المجتمع المدني، ولربما الأقل شهرة وجاذبية؟ وكان جوابي يأتيني سريعا، إنه اختيار ينم عن عمق إحساسه الإنساني الرفيع, والتبرع بالدم، قد يبدو وكأنه خال بالمطلق من أي ذرة أيديولوجية أو سياسية كما في أي نشاط ثقافي أو مادي آخر، إلا أنه، وبالمطلق أيضا، نشاط أيديولوجي إنساني بحث، يعلي من قيمة انقاد الحياة الإنسانية كيفما كان انتماء صاحبها…فهو إذن خير الخيرات، إن جاز لي هذا التعبير. وكان انفراده بهذا الاهتمام واحدا من تجلياته الإنسانية الرفيعة.
ويقترن في ذهني هذا الجانب الإنساني بآخر يدل على مضيافيته ورحابة وجدانه، ومن حيث أنه فتح باب بيت أسرته على مصراعيه لاستقبال العشرات من الاجتماعات واللقاءات التحضيرية لهذا العمل أو ذاك وبمختلف أنواعه ومجالاته. قد لا يعير البعض أهمية لهذه الخصلة ” الحاتمية” الحميدة، والتي أحسبها من القيم المعيارية الدالة حتى في صفوف المناضلين أنفسهم. والأمر لا يقتصر على جانبها المادي المحسوس وحسب، وإنما دالتها الأقوى في جانبها الروحي بالأساس. فمن خبر الوسط النضالي يعرف جيدا، أنه ليس كل من يحارب الطبقية والاستغلال وغيرهما، يتمتع بالضرورة بهذا السخاء الروحي الذي هو في الأساس حبٌّ وتفانيٌ في خدمة القضية، لا في تجريدها العام، بل في حب حامليها من المناضلين والناس البسطاء، وهم الأساس الروحي للقضية نفسها. ولا أغالي في قولي، إذا ما خلت القضية من هذا الجذر الروحي فإن مآلها أن تتحجَّر وتتفكك في طور مَّا من أطوار مدعيها.
وعلى نفس المنوال، لن نتفاجأ إذا ما كان الراحل زوجا وأبا مثاليا بكل المعاني. وهنا أيضا، كان دفاعه عن المساواة وحقوق المرأة والأبناء، وضد كل مساوئ الأسرة الذكورية الأبوية، يتعدى دفاعه عن مبدأ آمن به، وشارك رفاقه فيه. وإنما كان في ذلك من القلة التي استطاعت أن تتحرر من تلوثات وترسبات الذكورية اللاواعية التي تظل كامنة حتى في سلوكات دعاة التحرر والمساواة، ومن الجنسين معا (؟!)
إنها القضية التي قدم لها، وبصمت، الكثير والكثير، بجانب زوجته المناضلة الوفية ذات نفس العيار والقيم الأخت السعدية الباهي. وكانا معا خير مثال ونموذج لما تكون عليه الأسرة المتحررة والمناضلة في المحبة والقول والفعل.
ومرة أخرى، لن يفاجأنا قط هذا الصفاء الإنساني المتناغم في شخصية الراحل. فالرجل امتهن تربية الأجيال الصاعدة، وهي مهنة نضالية بامتياز. وفي هذا الصدد لن أنسى كم مرة حدثني في لقاءاتنا المتفرقة عن ما يمور في خلده من أفكار وآمال في تعليم ديني أكثر انفتاحا على التاريخ وعلى العقلانية وعلى الإنسانية وتجاربها الدينية عامة، وفي بدل ما التعليم والثقافة عليه من اجترار ماضوي متمذهب، كيفما كانت أسماءه، والذي لا ينشئ في أحسن الأحوال إلا لهوية قاصرة وهجينة بقياسات العصر، أو في أسوئها لهوية مغلقة على نفسها وعدائية لغيرها.
ولقد كنا نقف على نفس الأرضية الواحدة، عندما كنا نتبادل الرأي في أحداث الفتنة المدمرة التي ألمت بالكيانات العربية الإسلامية في العقد الأخير، فكنا نعطي للمناهج التربوية والدينية نصيبها فيما وقع، ونعطي لتحرير الثقافة الدينية السائدة من تقليدانيتها المزمنة الشرط الأول لاستئناف النهضة القادمة. فلا استثناء في هذه القاعدة التاريخية التي مرت بها كل المجتمعات ذات الثقل الحضاري في طور انتقالها وانجازها للحداثة والتقدم.
ونأتي لواحدة أخرى في صفاء وتناغم شخصيته الإنسانية التقدمية. واعني بها، أنه في المسألة الأمازيغية والعروبية، كان موقفه امتدادا لما كان عليه الجيل الوطني من قادة ومفكرين وساسة أمازيغيين وعروبيين في آن واحد. لأن الهويتين معا كانا عند هذا الجيل فضاءا تاريخيا للتقدم الحضاري، وليس قطعا فواتا أيديولوجيا لعصبية عرقية، كما صارتا عند الكثيرين ممن لم يستوعبوا بعد، أن للوجه الإيجابي للعولمة، وجها آخر نقيضا له، في ما تحدثه آلياتها وسياساتها وأيديولوجيتها وإعلامها، المهيمنة جميعا، من تفتيت اجتماعي وكياني، وانكفائية عصبوية ارتدادية، وفوضى قيمية وسياسية وأيديولوجية. وسيان أن يحدث ذلك تحت شعارات الحداثة نفسها أو تحت أيديولوجية ماضوية عارية.
والملفت في هذا كله، أن رفيقنا كان ينظم شعره بالدارجة المغربية، ومع ذلك، كان يرى، وعن حق، أن اللغة العربية هي القاطرة التاريخية والمعرفية للارتقاء التفاعلي الإيجابي بين اللهجات العربية جميعا واللغة العربية الواحدة والموحِّدة لها. وفي كل التجارب النهضوية اللغوية يعود الدور الأكبر دائما للدولة ولإرادتها السياسية ولتخطيطها العقلاني لتعدديتها اللغوية. وهذا ما ينقصنا في جميع الدول العربية.
ما يؤلمني ويحز في نفسي، ما دام الفراق حتمية لا فكاك منها، أن ما كان في حلمه، وحلمنا جميعا، وما ناضلنا من أجله سويا طيلة عقود سالفة، هو اليوم أبعد مما كنا نتصور. بل لعله صار عند الكثيرين مجرد أوهام ولغة خشب، فارقها الزمان وهزمتها الأحداث والوقائع الصارخة أمامنا. لكن هل من خيار كوني وقومي آخر بين، إما السقوط في هاوية الفوضى والبربرية وإما الصعود إلى المجتمع الإنساني الحق، سوى الدفع بخيار الصعود والمضي على نفس العهد وتحمل كل مشاقه وفواجعه بثبات وصبر لا يثنيان وإرادة لا تلين. فالمناضلون رجالا ونساءا يرحلون وحلمهم يستمر مسؤولية على عاتق الواقفين الصامدين من بعدهم. ولعله العزاء الوحيد في فراق الحبيب صوابني وكل حبيب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد