كتاب جديد للمخرج مسعود بوكرن: ميلاد ناقد أمازيغي ودعوة للمصالحة مع الجمهور.

5

(السينما الأمازيغية .. وشم الذاكرة وسؤال الذات)، عنوان جديد لصاحب الفيلم الأمازيغي التاريخي “للا تاوعلات”، الباحث والمخرج السينمائي الأمازيغي “مسعود بوكرن: وهو عنوان موشوم بأسئلة راهنة، ونبش في ذاكرة السينما الأمازيغية من خلال رؤية نقدية متأنية غاصت في أعماق الصرح السينمائي بسوس.
ومنذ أن اختار المخرج الشاب الغوص في أعماق التاريخ والتراث وهو يحاول أن يثري الفضاءات الأمازيغية بأعمال غنية بحمولاتها التاريخية التراثية الثقافية، انطلاقا من رؤيته الخاصة، خاصة وأنه من المقلين الذين لا يرون أية فائدة في كثرة الإنتاجات “الماكدونالدية” كما سماها.
وكتاب ” وشم الذاكرة وسؤال الذات” الذي تم توقيعه من طرف الكاتب مساء يوم الثلاثاء المنصرم بكلية الآداب بأكادير وسط نخبة من الأساتذة وطلبة الإجازة المهنية السينمائية، من الكتب الجادة التي شرحت واقع السينما المحلية تشريحا علميا بأسلوب بسيط بعيد عن التعقيد أو التمويه، مع مراوغة ذكية في عملية تجنب ذكر الأسماء والأعمال المقصودة، في إشارة إلتفاتية لراهنية مزرية تشمل كل الأعمال دون استثناء، في ظل استحضار للمعايير السينمائية، وتغييب المصطلحات الفجة التي أصبحت تملأ الكتب والمجلات المعنية بالشأن السينمائي.
وقد وصف الناشر ومدير المهرجان الصحفي والإذاعي رشيد بوقسيم الكتاب بأنه “رؤية تسير عكس الكتابات النقدية التي مرت علينا، فهي تقوم بتشريح داخلي للهيكل السينمائي الامازيغي من خلال منظور وتجربة الكاتب، وقد حذا في ذلك حذو بعض الأقلام التي ترى الحل في عمليات التشريح، والرجوع إلى الذات، بدل الركون إلى الاتهامات الفضفاضة، والتسويفات المجانية، باعتبار أن التغيير يبدأ من النفس قبل المحيط، وتلك مكاسب حقيقية لو وصلت لمرحلة النضج، والذي يميزها أنها تقدم المنظور الفلسفي للأشياء بدل المنظور الكلاسيكي، وذلك من خلال التأمل، والتبصر، والشك، واستنطاق السؤال، فالكتاب دعوة صريحة إلى الاهتمام بأناقة الداخل قبل أناقة المظهر الخارجي، ودعوة إلى عدم حرق المراحل في مجال لا يحتمل ذلك ولا يتسع له، وتطوير مجالات النقد التي تعكس جماليات السينما وتعد أهم روافدها.

2
مسعود بوكرن

لقد تناول الباحث مسعود بوكرن في كتابه مجموعة من الإشكاليات التي عاقت السينما الأمازيغية، وحولها إلى نبض حقيقي في حاجة إلى التفاتة قوية، من خلال أربعة عشر مبحث. وحاول أن يكشف الهموم التي يتخبط فيها الفيلم الأمازيغي بعيدا عن الاحترافية.
كما ركز بشكل كبير على ابتعاد الأعمال الفيلمية المحلية عن القضايا الكبرى التي تخدم مصلحة الوطن أولا، وتتقاطع مع القضايا الأمازيغية ثانيا، وكشف عن حيثيات البعد عن اللغة كمكون أساسي لضمان الاستمرارية، وأشار إلى الثقب الهوياتي الذي لم يلتفت إليه أحد، وقال بأن الهوية الأمازيغية من بين القضايا التي أضرت بها السينما المعنية بها، حيث لم تقدم في نظره إلى حد الآن القدر الكافي من الخدمة المنوطة بها، بل ويرى أن السينما الأمازيغية ساهمت بشكل ملفت للأنظار في تراجع مستويات اللغة والهوية في الكيان الأمازيغي.
إلى جانب هذا وضع خيوط علاقة صورية غير حقيقية بين السينما والجمهور، وذلك لعدم وجود روابط الاحترام بين الطرفين، حيث يقول: ” إن تقديمَ وَصَفات رديئة للمشاهد يعد أكبر احتقار له، واستهدافَه ماديا بشكل صارخ ليس في حاجة إلى تأويل، لذلك أزيد من ثلاثة أرباع إنتاجاتنا لا تضع المشاهد موضع إجلال وتقدير، وقد سبق أن صرحنا (يقول الكاتب) بأن هذه الأعمال يجب أن ترمى في مزبلة التاريخ، معترفين بسخافتها وسذاجتها بدل الإغترار بها وعدِّها من جملة الإنجازات المحققة، وليتها اكتفت بتهمة السخافة والسذاجة، بل تشكل ضررا وخطورة أقوى من ضرر الجمرة الخبيثة، وهو ما تجنيه الآن السينما الأمازيغية التي ظلت منذ نعومة أظفارها تستغبي مشاهديها، وتقدم لهم أسوأ ما يمكن إنتاجه، دون إغفال ما للتربية الفنية والتوعية السينمائية لدى المشاهد نفسه، من أهمية في تحديد مصيره”.
ثم يأتي دور العلاقة بين الممثل والمخرج والمنتج، والتي يرى بدورها بأنها علاقة مبنية على المصلحة النفعية، وتتجاوز حدودها أحيانا ليصفها بالعلاقة البشعة، حيث تتم مظاهر الاستغلال في اقسى صوره، مع الاستعانة بمن سماهم سماسرة الفن الذين خلقوا فضاءات واسعة في الساحة الفنية لتلبية رغباتهم، وتسخير آلياتهم اللا أخلاقية للمتاجرة في الفنانين، وإقام علاقات مشبوهة بين الأطراف المعنية، خاصة إثر حديثه عن العلاقة بين السينما والمرأة، فهو يرى بأن الممثلة الأمازيغية “لا يوازي مصيرُها الراهن حجمَ عطائها، حيث لم يمنحها الفن عُشُر ما منحت هي للفن، وظلت تتهادى بين المصير والطموح، ومناجاة الحظ العاثر، فاكتفت من الغنيمة بالإياب، وبالمجاراة حسب جميع المقاسات، وسايرت الأهواء المطاطية مسايرة طوعية، فألْفَت نفسها تائهة بين مطرقة واقع فني متآكل من الداخل، وسندان تلبية رغبات الفحولة المترجلة .. رغبات سماسرة الفن الذين أبَوا إلا أن تكون (أي الرغبات) عنوانا لكل ما يمت إلى هذا العالم بِصلة .. تلك الرغبات أو الطابوهات الحيوانية الجامحة المسكوت عنها، والتي يعتبرها بعض أهل الفن – للأسف يقول الكاتب – حقا طبيعيا، وممارسات روتينية عادية، وإحدى ضروريات الإبداع”.
ويضيف أيضا “صفحات من التاريخ الجنسي والاستغلالي البشع، كُتبت على جباه فتيات حَرمن أنفسهن مُتَعَ الحياة مقابل مُتَع الفن، فوجدن أنفسهن بين أحضان مُتَع النزواة العابرة، يتلقين صفقات شبه يومية، دون أدنى مسؤولية أو تجربة، تَتَخَطَّفُهن الأهواء منذ طلوع بدرهن فيخترن الدَّوْرَ والدّارَ معا، بل ويخترن الدخول في لعبة الشطيان بمحض إرادتهن، وتحت تأثير ثعالب الفن وسماسرته”.
يبدو أن صاحب أول فيلم ديني أمازيغي غير راض عن الوضع الذي تم تناول القضايا الدينية في الأفلام الأمازيغية، فهو يكشف الغطاء عن المستور بكل جرأة، ويربط الثقافة الأمازيغية بمفهوم الأخلاق حيث يرى بأن الأخلاق الرفيعة التي يتميز بها المجتمع الأمازيغي ساهمت السينما الأمازيغية نفسها في تشويهه إلى حد كبير، كما قدمت على حد تعبيره نماذج سيئة للتيمات الدينية خلاف ما نعيشه، وذلك بحثا عن مواطن إضحاك المشاهد وليس إمتاعه.
ومن زاوية أخرى فإننا نجد الكتاب يميل بشكل واضح إلى الدعوة إلى قراءة الذات ونقر الذاكرة بدل التوغل في الإنتاجات التي تسيء إلى مكوناتنا، ويرى الكاتب بأن إيقاف عجلة الإنتاج الأمازيغي بشكل نهائي في المرحلة الراهنة أفضل وأنجع من مواصلة ما يسميه بالمهازل الفنية التي لا تمت إلى الفن بصلة ويصرح في صرخة مدوية ” أصبح لزاما علينا التَّوَرُّع مما قدمناه للسينما الأمازيغية من أعمال لا تتوفر على أبسط مقومات الفن، والسينما منها بَرَاء، وأن لا نَقنط من زلةٍ عَظُمَت، فنتقدم بكل خجل بكامل الاعتذار للجماهير الأمازيغية التي ألهيناها، وقلَبنا بعض مفاهيمها، وصرفناها عن أوكارها الحقيقية، وعن ثقافتها وتراثها ومعالمها التي لا تقبل الغَبَن، فحرام أن نحبس جمهورا بأكمله في دائرة فن سقيم وعليل.
إن المشاهد الأمازيغي مهما بلغت قوة صبره، فذكاؤه لا يسمح له بالمواربة، ولا بد يوما سيثور على من يعبث بهويته”.
والذي تبدو فيه صرامة الكاتب هو مبحث “قاطرة السينما .. والمحطة الأخيرة” الذي تعامل معه بحنكة قوية حين جعل القاطرة تصل إلى محطتها الأخيرة بعد فشل ذريع في مسيرتها، وأكد بأن السينما الأمازيغية لم تستطع تحقيق الذات، يقول:” إننا فعلا فشِلنا في جولاتنا الثلاثة في الصراع مع الذات، وفشِلنا أيضا بامتياز في تقديم نموذج فني أمازيغي أصيل يحظى بالتقدير والاحترام”. وذلك كما يضيف بوجود “عينات كثيرة العدد تُرك لها الحبل على الغارب، لا ترى الفن إلا من زاويته التجارية، والجريِ خلف الأهواء وتلبية الرغبات، وليس لها مشوار أو هدف، وهي التي يُنعت بها الفن الأمازيغي حاليا، وتمثله بقوة وشراسة”
إن الكتاب الذي بين أيدينا نقل للواقع السينمائي الحالي دون رتوشات أو ماكياج، وهو محاولة متفردة في ميدان الكتابة النقدية الجادة، وتنبئ بميلاد ناقد وباحث أمازيغي متحكم في أدواته، في الوقت الذي نرى فيه الساحة فارغة وقد توقفت فيه الكتابات السينمائية بشكل نهائي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد